قصائد و مقالات

سرقة الموروث واستنساخ الثقافات… سلاح من لا تاريخ له

الجزائر _ كمال فليج

 
في زمن العولمة وثورة الاتصال، تتعرض الهويات الثقافية لخطر غير مسبوق. فبين سرقة الموروثات الشعبية ونزعها من سياقاتها الأصلية، واستنساخ الثقافات في قوالب استهلاكية موحّدة،  تهدد الذاكرة الجماعية بخطر الذوبان في أنماط دخيلة لا تمتّ للأصالة بصلة. اقدم  قراءة تحليلية في أخطر ظاهرة تواجه وجدان الشعوب وكيانها الحضاري.

الموروث الثقافي، المادي منه (الآثار، الفنون، العمارة، الحِرَف) وغير المادي (العادات، الأهازيج، الرقصات، الملابس، الطبخات الشعبية)، هو الشريان الذي يصل حاضر الأمة بماضيها.
إنه ليس مجرد زخارف فولكلورية، بل خلاصة تجربة إنسانية طويلة، تحفظ الوجدان الجمعي وتؤطر هوية المجتمع.
غير أن هذا الكنز كثيرًا ما يُستغل تجاريًا ويُفرغ من روحه، ليُباع كسلعة بلا جذور ولا ذاكرة.

سرقة الموروث لا تعني فقط نقل نمط فني أو طبق تقليدي، بل نزع رمزيته وتصديره في قالب جديد يُطمس معه أصله.
وقد شهد العالم العربي نماذج صادمة لذلك:

  • فن الراي الجزائري: نشأ في وهران وسيدي بلعباس، وكادت مهرجانات دولية تنسبه إلى دول مجاورة، قبل أن تُدرجه اليونسكو ضمن التراث اللامادي الجزائري سنة 2022.
  • القفطان الجزائري: يُعد القفطان من أعرق الأزياء التقليدية الجزائرية، خاصة في مدن تلمسان والجزائر العاصمة وشرشال، حيث ارتدته النساء منذ العهد الزياني والعثماني، وارتبط بمناسبات الزواج والاحتفالات الرسمية.
    وتتميز القفاطين الجزائرية بثراء تطريزها (الفتلة والذهب المنسوج يدويًا) وأناقة قصّاتها التي تجمع بين الوقار والفخامة، وقد صُنّفت بعض أنماطها مثل القفطان التلمساني ضمن التراث الثقافي الوطني الجزائري.

    لكن خلال العقود الأخيرة، ظهرت محاولات متكررة في الإعلام والمنصات الدولية لنسب القفطان حصريًا إلى المغرب، حيث جرى تقديمه في عروض أزياء عالمية على أنه “زي مغربي تقليدي” فقط، دون الإشارة إلى امتداده التاريخي في الجزائر.
    وقد أثار هذا الأمر استياء واسعًا لدى الباحثين الجزائريين في التراث، الذين أكّدوا أن القفطان لباس مغاربي مشترك بجذور موثقة في الجزائر قبل القرون الحديثة، وأن احتكاره أو نسبه إلى بلد واحد يعد طمسًا لهوية ثقافية متجذّرة ومتنوعة.

  • طبق الكسكس المغاربي: حاولت جهات تسويقه كطبق «شرق أوسطي» قبل أن يُعترف به تراثًا مشتركًا للجزائر و دول شمال افريقيا
  • الثوب الفلسطيني المطرز: ظهر في عروض أزياء عالمية كمجرد «زي بوهو» دون ذكر مصدره، بل استُخدم في الكيان الصهيوني  كجزء من «التراث الإسرائيلي» في محاولة لطمس جذوره الفلسطينية. و غيرها من الأمثلة

تُظهر هذه الحالات كيف تُسرق الرموز من سياقها الثقافي وتُمنح هوية زائفة تخدم أجندات سياسية أو تجارية.

إلى جانب سرقة الموروث، تُهدد الهويات الوطنية ظاهرة أخرى هي استنساخ الثقافات، حيث تُفرض أنماط موحّدة عبر الإعلام والترفيه والموضة، فتذوب الخصوصيات المحلية أمام ثقافة استهلاكية عابرة للحدود.

من أبرز صورها:

  • مدن صينية بُنيت على الطراز الأوروبي بالكامل مثل «تيانجين الإيطالية»، في قطيعة مع الهوية المعمارية الصينية.
  • انتشار الوجبات السريعة الأمريكية التي همّشت أطباق المطابخ الوطنية في معظم القارات.
  • طغيان موضات اللباس السريعة (fast fashion) التي جعلت شوارع العواصم متشابهة، وأقصت الأزياء المحلية إلى المتاحف والمناسبات النادرة.

هذا الاستنساخ يُنتج أجيالًا بلا جذور، ترى تراثها «قديمًا» وتنبهر فقط بالمستورَد.

سرقة الموروث واستنساخ الثقافات ليستا أفعالًا معزولة، بل أدوات هيمنة ثقافية ناعمة تستهدف تفكيك الروابط الرمزية بين الأجيال وشعوبها.
فكلما انقطع الإنسان عن ذاكرته ، صار مستهلكًا سلبيًا يسهل توجيهه، ومجتمعًا هشًّا فاقدًا للبوصلة، ضعيف المناعة أمام الاختراقات الثقافية والسياسية والاقتصادية.
كما تولّد هذه الظواهر شعورًا بالاغتراب وفقدان الانتماء، ما يهدد التماسك الاجتماعي ويُضعف الهوية الوطنية.

التصدي لهذا الخطر يتطلب خطوات عملية مثل :

  • توثيق الموروث الوطني بدقة في سجلات وطنية ودولية.
  • دعم الصناعات الثقافية المحلية وتمكين الحرفيين والفنانين من الإبداع داخل إطارهم التراثي.
  • ترسيخ الوعي الثقافي لدى الناشئة عبر التعليم والإعلام.
  • تشجيع التبادل الثقافي المتكافئ القائم على الاحترام والاعتراف بمصادر العناصر التراثية.

و من جانب أخر يمتلك الإعلام دورًا محوريًا في هذه المعركة، فهو القادر على تحويل الدفاع عن التراث من قضية نخبوية إلى رأي عام فاعل. وتتمثل مسؤوليته في:

  • إنتاج محتوى رقمي وتلفزيوني يعرف بالموروث الوطني ويكشف جمالياته.
  • فضح محاولات السطو والانتحال وتفنيد المزاعم الزائفة.
  • تقديم التراث في قالب عصري جاذب للأجيال الجديدة.
  • إبراز أعمال المبدعين المحليين ودعمهم بالمنصات الإعلامية.

فالإعلام هو الحصن الأول للذاكرة ، وصوتها الذي يجب ألا يصمت.

خلاصة القول من يُفرّط في موروثه، يُفرّط في نفسه؛ فالموروث ليس حجرًا من الماضي، بل جذرًا للحاضر ومفتاحًا للمستقبل.
ومن يملك ماضيه… يملك أن يصنع غده.

 

 

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى