شعر و قصص

حارس المقبرة الفصل الثلاثون: الوداعُ المُقدَّسُ والوصيَّةُ النورانيةُ

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي كاتب من سلطنة عُمان مسقط

عادَ عادلٌ إلى غرفتِهِ في المقبرةِ بعدَ أنْ أتمَّ مهمتَهُ الأخيرةَ بنجاحٍ:

إبطالَ آثارِ ظلمِ القاضي، والتوسّطَ لِرفعِ عذابِ النميمةِ عنِ الروحِ التائبةِ. جلسَ عادلٌ وحيداً، ناظراً إلى ضوءِ قنديلِهِ الخافتِ، وقلبُهُ يفيضُ حمداً وشكراً.

تحدّثَ عادلٌ إلى نفسِهِ بِيُسرٍ: “الحمدُ للهِ الذي أكرمنيَ، حارسَ المقبرةِ البسيطَ، لِأكونَ سبباً في إعادةِ الحقِّ، وتخفيفِ العذابِ، ونشرِ حكمةِ الموتِ بينَ الأحياءِ! لولا فضلُ اللهِ، لَما استطعتُ إتمامَ هذهِ المهامِّ التي أعجزتْ أصحابَ السُلطانِ والمالِ. إنَّ اللهَ قدْ جعلَ الصلاحَ والإحسانَ هوَ المفتاحُ الذي يفتحُ ليَ أبوابَ السماءِ لِأُكلّمَ الأمواتَ. والآنَ، حانَ وقتُ التطهيرِ الأكبرِ.”

الوصيةُ الأخيرةُ لِوارثِ الأمانةِ

في الصباحِ الباكرِ، اصطحبَ عادلٌ ابنَهُ عبدَاللهِ. كانَ عبدُاللهِ يرتدي ثياباً نظيفةً، ويحملُ في قلبِهِ رهبةً ممتزجةً بالشوقِ لِحملِ العهدِ. لمْ يذهبِ عادلٌ بعبدِاللهِ إلى القبرِ مُباشرةً، بلْ ذهبَ بهِ إلى غرفتِهِ أولاً.
جلسَ عادلٌ معَ ابنِهِ، وقالَ لَهُ بِنبرةٍ خاشعةٍ، مُفشياً سِرَّ العائلةِ العظيمَ:
“يا ولدي عبدَاللهِ، إنَّ اللهَ قدْ منَّ علينا نحنُ، عائلتكَ وجَدّكَ وأنا وأنتَ، بنعمةٍ عظيمةٍ هيَ الأغلى على الإطلاقِ. إنَّها ليستْ رزقاً ولا منصباً، بلْ هيَ القدرةُ على مُواجهةِ الأرواحِ والحديثِ معَهمْ، ما دُمْنا أُناساً صالحينَ مُتّقينَ للهِ. تتقدَّمُ إلينا الأرواحُ لِتُحدّثَنا عما كانوا فيهِ منْ نعيمٍ أوْ عذابٍ، ونحنُ بدورِنا نُصبحُ رُسلاً لِأهلِ القبورِ إلى الناسِ كافةً. هذهِ الرسالةُ هيَ منْ فضلِ اللهِ علينا لِنُعظَ الناسَ ونُذكّرَهمْ. فإذا انحرفنا عنِ الصلاحِ، انقطعَ هذا الفضلُ. فاحذرْ يا بنيَّ منْ كَسْبِ الحرامِ أوْ رِضا الظالمِ، فَهذا يقطعُ الوصالَ الروحيَّ.”

لَمْ يذكرْ عادلٌ لعبدِاللهِ شيئاً عنْ الكنوزِ التي جناها منْ أهلِ القبورِ، لِيَبقى قلبُ الابنِ مُتعلّقاً بِأصلِ الرسالةِ.

بعدَ الوصيةِ، أخذهُ عادلٌ إلى المقبرةِ، ووقفَ بِهِ في منتصفِها بالضبطِ، حيثُ تتلاقى الممراتُ وتتجمعُ قصصُ الأمواتِ. رفعَ عادلٌ يديهِ، ورفعَ عبدُاللهِ يديهِ أيضاً، وبدأَ عادلٌ يُسلّمُ ويدعو بِصوتٍ خاشعٍ لِأهلِ القبورِ جميعاً، طالباً لهمُ الرحمةَ والغُفرانَ.

ثُمَّ التفتَ عادلٌ إلى عبدِاللهِ، وقالَ لَهُ بِموقفٍ مهيبٍ مُعلناً الخلافةَ النهائيةَ:
“يا أهلَ القبورِ! يا مَنْ علَّمنيَ الحياةَ، ويا مَنْ أخذتُ منْ قصصِكُمُ الحِكَمَ! هذا ابنيَ عبدُاللهِ، سيحلُّ مكانيَ نهائياً لِيحملَ هذهِ الأمانةَ. أوصيتُهُ بِالعدلِ والإحسانِ وبِحُسنِ الصُحبةِ. فاستوصوهُ خيراً، فإنَّهُ حفيدُ شيخِكُم وحارسُكمْ الجديدُ!”

رحلةُ الحجِّ ومُقابلةُ النورِ
استعدَّ عادلٌ لِلسفرِ، فودَّعَ أهلَهُ بِلُطفٍ، وودَّعَ أهلَ المدينةِ الذينَ ودّعوهُ بِاحترامٍ، ثمَّ انطلقَ مُتوكّلاً على اللهِ. وصلَ عادلٌ إلى مكةَ، وأدَّى مناسكَ الحجِّ بِتجرّدٍ وتطهيرٍ لِرُوحهِ.

بعدَ أنْ أتمَّ عادلٌ فريضتَهُ، توجَّهَ لَيلاً إلى المقبرةِ العامةِ بحثاً عنْ قبرِ والدِهِ الشيخِ. كانتِ المقبرةُ هادئةً، وبمجردِ أنْ اقتربَ عادلٌ منَ المنطقةِ التي يُرجّحُ أنَّ والدَهُ دُفنَ فيها، سمعَ صوتاً مألوفاً، صوتَ الشيخِ الوالدِ يناديهِ بِعطفٍ وحنانٍ: “أهلاً بِولدي عادل! أهلاً بِوارثِ الرسالةِ!”

اهتدى عادلٌ إلى قبرِ والدِهِ، وهناك شاهدَ مشهداً يُجلي القلبَ: فقدْ خرجتْ روحُ والدِهِ الشيخِ بِمظهرٍ مُشرقٍ، يرتدي ثوباً أخضرَ جميلاً ناصعاً، وكأنَّهُ نورٌ مُجسَّدٌ منْ نعيمِ الجنةِ.

تحدّثَ الشيخُ الوالدُ إلى ابنِهِ عادلٍ بِكلامٍ نورانيٍّ صافٍ:
“يا عادلُ، لقدْ رفعتَ رأسيَ في البرزخِ. شكراً لكَ يا ولدي على حملِ الرسالةِ وإتمامِ المهمةِ. لقدْ رأيتُ بعينيَ الروحِ كيفَ أعدتَ الحقوقَ، وكيفَ أحييتَ العدلَ بينَ الأحياءِ والأمواتِ. إنَّ عملَكَ هذا هوَ النعيمُ الحقيقيُّ الذي ورثتَهُ منّي.”
ثُمَّ أوصاهُ الشيخُ بِيقينٍ: “يا عادلُ، أوصيكَ بِابنِكَ عبدِاللهِ خيراً. فقدْ سلّمتَهُ أمانةً أشدَّ منْ حملِ الجبالِ، فزِدْ منْ عِظتِهِ ودُعائِكَ لَهُ لِيثبتَ على عهدِ الصلاحِ. وأوصيكَ بِأهلِ القبورِ، فاستمرَّ في شفاعتِكَ ودُعائِكَ لهمْ. والأهمُّ، لا تنسَ أبداً أنَّ الناسَ الأحياءَ همْ مصدرُ النعيمِ أوِ العذابِ لِلأمواتِ، فاجعلْ منْ كلِّ قصةٍ رسالةً لِتنجو الأرواحُ في القبورِ. باركَ اللهُ لكَ في حجِّكَ وسعيِكَ.”

تلاشتِ الروحُ في النورِ، تاركةً عادلًا في سكينةٍ ويقينٍ مُطلقٍ. يَنتهي عادلٌ منْ زيارتِهِ، مُحمَّلاً بالوصيةِ الأخيرةِ، ويُسافرُ لِيُقيمَ بجوارِ بيتِ اللهِ. وتمضي الأيامُ، ومدينةُ عادلٍ تُسلّمُ مهمةَ الحراسةِ لِوارثِ الرسالةِ.

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى