شعر و قصص

​حارس المقبرة ​الفصل الثالث والعشرون: عذابُ اللسان والكلمةِ المفرقة

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي كاتب من سلطنة عُمان مسقط

​لمْ يُغيّرِ الكنزُ الجديدُ الذي وُهِبَ لِعادلٍ شيئاً في روتينِ حياتِهِ أوْ جوهرِ قلبِهِ. لقدْ أضحى بالنسبةِ لَهُ أمانةً إضافيةً، وعبئاً مُباركاً لِفعلِ المزيدِ منَ الخيرِ. بقيَ عادلٌ حارساً للمقبرةِ، حاملاً همَّ الناسِ ورسالةَ والدِهِ الشيخِ، لكنَّ حكاياتِها لمْ تنتهِ قطُّ.
​في ليلةٍ سادَها سكونٌ قاسٍ، وبينما كانَ عادلٌ يتفقدُ أطرافَ المقبرةِ، سمعَ همساً خافتاً يُعكّرُ صفوَ الليلِ؛ لمْ يكنْ همسَ حكمةٍ، بلْ همسَ عذابٍ وشقاءٍ مُتكرّرٍ. ظهرتْ لَهُ روحٌ شاحبةٌ غيرُ مُستقرةٍ، تبدو عليها علاماتُ القلقِ والألمِ، وكأنَّ لسانَها يُعاقبُها في صمتِ الأبديةِ. كانتِ الروحُ تُمسكُ رأسَها وتئنُّ بأصواتٍ مُتقطّعةٍ، صوتٌ يكسرُ القلوبَ.
​اقتربَ عادلٌ بِحذرٍ، وسألَ الروحَ بصوتٍ مُتعاطفٍ: “ما خطبُكَ أيُّها الروحُ؟ أيُّ حسرةٍ تحملُها؟”
​تحدثتِ الروحُ بصعوبةٍ، وكأنَّ كلَّ كلمةٍ تُكلّفُها عذاباً مضاعفاً: “يا عادلُ، إنَّني أُعاني منْ عذابِ لساني وكلماتي. في دنيايَ، كنتُ مُدمناً على النميمةِ والغيبةِ، وكنتُ أُشعلُ الفتنةَ وأُفرّقُ بينَ الناسِ بكلمةٍ مُزيَّنةٍ لِمصالحَ دنيويةٍ. لقدْ جعلتُ منْ لساني سلاحاً يقتلُ الروابطَ دونَ أنْ يتركَ دماً مرئياً.”
​توقفتِ الروحُ لتأخذَ نفساً مؤلماً، ثمَّ أكملتْ بأشدِّ درجاتِ الحسرةِ: “أنا الآنَ أُعاني بسببِ كلِّ كلمةٍ خرجتْ منّيَ وظلمتْ شخصاً. لقدْ اكتشفتُ أنَّ قيمةَ الكلمةِ توازي قيمةَ المالِ في جزائِها وعقابِها. إنَّ هذا القبرَ يا حارسَ القبورِ مُلئَ بصدى أصواتِ المظلومينَ الذينَ فرَّقتُهمْ، واليومَ أجدُ نفسي مُجبرةً على سماعِ صدى تلكَ الكلماتِ إلى الأبدِ.”
​نظرَ عادلٌ إلى المقبرةِ، وأدركَ حكمةً جديدةً: الذنوبُ لا تُقاسُ بِحجمِ الشيءِ الماديِّ، بلْ بِحجمِ الدمارِ الذي تتركهُ في قلوبِ الأحياءِ.
​قالَ عادلٌ للروحِ: “وما الذي أستطيعُ فعلَهُ الآنَ لِلتخفيفِ عنْكَ؟”
​تنهدتِ الروحُ بألمٍ، ثمَّ حدّدتْ مُهمتَها الأخيرةَ: “يا عادلُ، أرجوكَ، اذهبْ إلى تاجري الذهبِ المعروفينِ في المدينةِ، وهما (سالمٌ) و (حمدٌ)، أنتَ تعرفُهما. لقدْ بثثتُ بينَهُما سُمومَ الفتنةِ، وأوهمتُ كلَّ واحدٍ منهُما أنَّ الآخرَ يتآمرُ عليهِ، وكلُّ ما حصلَ لمْ يكنْ حقيقةً مني، بلْ محضُ كذبٍ وإساءةٍ. أخبرْهُما بالحقيقةِ وادعُهُما أنْ يتصالحا فيما بينَهُما، لعلَّ صلحَهُما يُطفئُ نارَ عذابي، لِئلّا يجدوا قبورَهُم سِجناً لأصداءِ كلماتِهِمُ البائسةِ وخصامِهِم.”
​ثمَّ أضافتِ الروحُ مُناشدةً أخيرةً: “وأخبرِ الأحياءَ يا عادلُ أنْ يتقوا اللهَ في أنفسِهِمْ، وأنْ يعقدوا هدنةً معَ ألسنتِهِمْ قبلَ فواتِ الأوانِ، وأنَّ الحقيقةَ لا تُكتشفُ إلا هنا. فليبحثوا عنْ كلِّ مَنْ ظلموهُ بكلمةٍ ويطلبوا الصفحَ والعفوَ لِئلّا يجدوا قبورَهمْ سجناً لِأصداءِ كلماتِهِمُ القاتلةِ. وذكّرْهُمْ يا حارسَ القبورِ أنَّ الفتنةَ أشدُّ منَ القتلِ، وأنَّ صدقَ قولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ‘لا يدخلُ الجنةَ نمّامٌ’.”
​أختفتِ الروحُ في يأسٍ وبأسٍ شديدٍ، وكانَ وقعُ ذلكَ شديداً على عادلٍ.
​عادَ عادلٌ منَ المقبرةِ، وصوتُ الروحِ لا يزالُ يرنُّ في أُذنِهِ. الكنوزُ المدفونةُ لا تُقارَنُ بخطورةِ اللسانِ الفالتِ الذي يدفعُ صاحبَهُ ثمناً باهظاً لأخطائِه، حتى بعدَ الموتِ. لقدْ أضحى عادلٌ الآنَ مُكلَّفاً بمهمةِ تطهيرِ القلوبِ وردِّ الروابطِ المقطوعةِ.

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى