
تشهد المنطقة العربية منذ عقود موجة غير مسبوقة من صعود الميليشيات الارهابية المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة والقانون، وتنهل من دعمٍ خارجي مباشر هدفه تقويض الحكومات الشرعية، وإضعاف الجيوش الوطنية، وتفكيك الدول من الداخل.
ومن أبرز هذه الجماعات: الحوثيون في اليمن، حزب الله في لبنان، قوات الدعم السريع في السودان، حركة الشباب في الصومال، والحشد الشعبي في العراق، وحركة حماس في فلسطين.
تختلف الرايات، وتتنوّع الشعارات، لكن الهدف واحد: السلطة عبر فوهة البندقية، وخدمة أجندات الخارج على حساب أوطانٍ تمزّقت شعوبها تحت رصاص الميليشيات.
تتشابه هذه التنظيمات في طبيعتها، رغم اختلاف شعاراتها الطائفية أو السياسية، فهي أدوات بيد القوى الخارجية، تمارس الإرهاب الميليشياوي بكل أشكاله: القتل، والاغتصاب، والتهجير، والتعذيب، ونهب الثروات، وتدمير النسيج الاجتماعي.
أدوات الخارج لتقويض الدول،
من اليمن إلى العراق، يتكرر المشهد نفسه: ميليشيا تنقلب على الدولة، ترفع شعار “المظلومية” لتبرير سلاحها، وتغرق البلاد في الفوضى والحرب الأهلية، ثم تبدأ مرحلة جديدة تحت رعاية داعميها الخارجيين الذين يستخدمونها كورقة ضغط في صراعاتهم الإقليمية.
في اليمن، حوّل الحوثيون بدعمٍ مباشر من إيران البلاد إلى ساحة صواريخ وطائرات مسيّرة تهدد الأمن الإقليمي، بعد أن أزهقوا أرواح عشرات الآلاف من المدنيين وزرعوا الألغام في كل قرية ومدينة.
وفي لبنان، يواصل حزب الله فرض هيمنته على القرار السياسي والعسكري، مستندًا إلى دعم طهران وسلاحٍ يفوق سلاح الجيش، حتى صار دولة داخل الدولة، يقرر الحرب والسلم دون الرجوع للحكومة.
أما في السودان، فتمثل قوات الدعم السريع النموذج الأوضح للميليشيا المرتزقة؛ إذ ارتكبت جرائم قتل جماعي واغتصاب في دارفور والخرطوم، خدمةً لمشاريع خارجية تسعى للسيطرة على موارد البلاد وثرواتها.
وفي الصومال، تواصل حركة الشباب – ذراع القاعدة في شرق أفريقيا – تنفيذ تفجيراتها الإرهابية ضد المدنيين، مستغلة ضعف الدولة والفقر، لتفرض أيديولوجيتها المتطرفة على مجتمعٍ أنهكته الحروب.
وفي العراق، تحوّل الحشد الشعبي الطائفي الذي اسسه المالكي وافتى بجهاده سيستاني من قوة مؤقتة لمحاربة داعش (الذي ادخله المالكي لمحافظات الغربية والموصل لقمع انتفاضتهم التي طالبت برحيله) إلى ذراع سياسية-عسكرية موازية للدولة، تتلقى أوامرها من ايران، وتشارك في الحكم دون أن تتخلى عن سلاحها أو عن ولائها لغير الوطن.
وفي فلسطين، تُعد حركة حماس مثالاً صارخاً على انحراف السلاح عن بوصلته الوطنية. فبعد أن كانت تُقدَّم بوصفها حركة مقاومة، تحوّلت إلى سلطة أمر واقع في قطاع غزة، تحتكر السلاح وتمنع أي صوتٍ معارض. وبينما يعاني الشعب الفلسطيني من الاحتلال والحصار، انشغلت حماس بتكريس نفوذها الداخلي، وتصفية خصومها السياسيين، وارتكبت انتهاكات خطيرة بحق المدنيين والمتظاهرين في غزة. كما ارتبطت الحركة بعلاقات وثيقة مع إيران، ما جعلها جزءًا من محور سياسي عابر للقضية الفلسطينية، يستخدمها كورقة ضغط في صراعاته مع الغرب وإسرائيل والعالم العربي. وهكذا، أصبحت حماس – كغيرها من الميليشيات – رهينة لممولها الخارجي، تعمل وفق حساباته لا وفق مصلحة الوطن.
من الإرهاب إلى المفاوضات،
المأساة الكبرى لا تكمن فقط في الجرائم التي ارتكبتها هذه الميليشيات بحق شعوبها، بل في قدرتها على تحويل الإرهاب إلى ورقة سياسية رابحة.
فبعد أن تمارس العنف والقتل والاغتصاب والتهجير، تبدأ مرحلة “الضغط السياسي” عبر السلاح والميدان، لإجبار الحكومات على الجلوس معها إلى طاولة المفاوضات، تحت ذريعة “السلام” و“المصالحة الوطنية”.
وهنا تبدأ مهزلة المهازل: يجلس المجرم والضحية على الطاولة نفسها، ويُمنح القاتل فرصة المشاركة في الحكم، لا لأنه أصلح حاله أو تاب، بل لأن القوى الخارجية التي تدعمه تريد تمرير مشروعها السياسي عبره.
وبذلك تتحول “المصالحة” إلى غطاء لشرعنة جرائم الحرب والإبادة، ويتحوّل “الدم” إلى بطاقة عبور نحو السلطة، وتصبح الميليشيا – التي لا تملك أي مؤهل علمي أو وطني – جزءًا من مؤسسات الدولة التي حاربتها بالأمس وقتلت وهجّرت الشعب.
إنها عملية تلميع للإرهاب على حساب العدالة، وإهانة لكل من قُتل أو عُذّب أو شُرّد على يد هؤلاء المسلحين.
الإفلات من العقاب والاستقواء بالخارج،
ما يزيد المشهد سوءًا هو إصرار هذه الميليشيات على إنكار جرائمها، ورفضها لأي محاسبة أو اعتراف بانتهاكاتها، بل إنها تسعى إلى الإفلات من العقاب عبر استخدام نفوذ الدول الداعمة لها في المحافل الدولية.
ولأنها لا تؤمن بالوطن، فإنها لا تتردد في الاستقواء بالقوى الأجنبية للضغط على الحكومات الوطنية، وفرض شروطها على طاولة التفاوض، وكأنها طرف شرعي لا عصابة مسلحة.
بهذا الشكل، تحولت بعض الدول العربية إلى رهائن لدى قوى ميليشياوية تتحكم في مصيرها السياسي والاقتصادي والأمني، تحت رعاية مباشرة من دول خارجية تتستر خلف شعارات “الوساطة” و“السلام”.
صمت المجتمع الدولي هو مشاركة في الجريمة،
وللأسف، يجري كل ذلك أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي والمنظمات الأممية، التي لم تقم بواجبها الأخلاقي والقانوني تجاه هذه الجرائم، فعوضاً من فرض العقوبات أو تصنيف هذه الجماعات كمنظمات إرهابية، اكتفى العالم ببيانات “القلق العميق” ونداءات “الحوار”، بينما الدماء تسيل في الشوارع والمدن تُدمّر.
بل إن بعض القوى الغربية والمنظمات الدولية تطالب – بكل وقاحة – بدمج هذه الميليشيات في المؤسسات العسكرية والأمنية الرسمية، وكأنها مكافأة للقتلة على جرائمهم.
إن دمج ميليشيا تلطخت يداها بدماء شعبها في أجهزة الدولة هو استهزاء بالعدالة، ونسف لفكرة سيادة القانون. كيف يمكن أن يُسلَّم أمن الدولة إلى من كان سبباً في انهيارها؟ وكيف يُكافأ الجاني بدلاً من محاكمته؟
بلا عقيدة وطنية،
ما يجمع هذه الجماعات، رغم اختلاف راياتها وشعاراتها، هو غياب العقيدة الوطنية. فهي لا تنتمي للأوطان التي تنشط فيها، بل تُقاتل من أجل الممول الذي يغذيها بالسلاح والمال.
لا يعنيها الوطن إلا بقدر ما يحقق لها مكاسب مادية أو سياسية، ولا تعبأ بمصالح الشعوب ولا مستقبلها. ولهذا نجدها مستعدة لتدمير المدن وتهجير أهلها إذا تطلب الأمر الحفاظ على نفوذها أو خدمة أسيادها في الخارج.
لا خلاص من المهزلة إلا بالوطن،
إن ما يجري اليوم في منطقتنا هو مهزلة المهازل؛ إذ يُكافأ القتلة بالمناصب، وتُمنح الشرعية لمن دمّر الأوطان، ويُتجاهل صوت الضحايا والمظلومين.
وما لم يتحرك المجتمع الدولي لوقف هذه المسرحية البائسة، ويفرض عقوبات حقيقية على الميليشيات وداعميها، فإن الفوضى ستبقى سيّدة الموقف.
إنّ خلاص شعوبنا لن يكون من خلال صفقات الخارج أو تسويات الخوف، بل من خلال إرادة وطنية صادقة تؤمن بالدولة، وتعيد الاعتبار للعدالة، وتضع حدًّا لثقافة الإفلات من العقاب.
فالميليشيات لا تبني أوطانًا، ولا تصنع سلامًا، بل تُغذي الخراب لتبقى. ولا دواء لهذا السرطان إلا عودة الدولة، وسيادة القانون، والولاء التام للوطن و وحدته.


