شعر و قصص

الفصل الحادي والثلاثون والأخير: خلافةُ النورِ وعهدُ الأرواحِ

بقلم ناصر بن محمد الحارثي كاتب من سلطنة عُمان مسقط

بعدَ لقائِهِ الميمونِ بِروحِ والدِهِ الشيخِ في مقبرةِ مكةَ المُباركةِ، غمرَتْ سعادةٌ عميقةٌ قلبَ عادلٍ. كانتِ الوصايا التي نالَها منْ أبيهِ نوراً يُضيءُ دروبَهُ. أتمَّ عادلٌ مناسكَ الحجِّ بقلبٍ مُطمئنٍّ، لسانهُ يلهجُ بِالدعاءِ لِأهلِهِ جميعاً، ولِابنِهِ عبدِاللهِ خصوصاً، أنْ يُعينَهُ اللهُ على حملِ الأمانةِ، وأنْ يُثبّتَ قلبَهُ على الحقِّ والصلاحِ. اطمأنَّ عادلٌ لِأنَّهُ سلّمَ المِصباحَ لِجيلٍ جديدٍ، فاستقرَّ بجوارِ بيتِ اللهِ الحرامِ مُتفرّغاً لِلعبادةِ، واثقاً أنَّ رسالتَهُ لمْ تنقطعْ.

عبدُاللهِ: أمانةُ الليلِ وبدايةُ العهدِ

في مدينةِ عادلٍ الهادئةِ، كانَ عبدُاللهِ قدْ بدأَ مُهمتَهُ الجديدةَ كحارسٍ لِلمقبرةِ. كانَ روتينُهُ يختلفُ عنْ والدِهِ؛ فعبدُاللهِ كانَ يُفضّلُ العملَ قبلَ غروبِ الشمسِ بقليلٍ، يُرتّبُ القبورَ، يُزيلُ الحشائشَ، ويُصلحُ ما تلفَ، مُستعيناً بِهدوءِ العصرِ. وما إنْ يحلُّ الليلُ بِظلامِهِ، حتى يكونَ قدْ أنهى أعمالَهُ المعتادةَ ويعودُ إلى الغرفةِ.

وفي ليلةٍ قمريةٍ مُضيئةٍ، بينما كانَ عبدُاللهِ يجلسُ في غرفتِهِ، يتلو وردَهُ منَ القرآنِ الكريمِ، شعرَ بِدِفءٍ غريبٍ يملأُ المكانَ، وصوتٍ خفيفٍ، خائفٍ بعضَ الشيءِ، يناديهِ: “يا عمَّ عبدَاللهِ… يا عمَّ عبدَاللهِ!”

دبَّ الخوفُ والرعبُ في قلبِ عبدَاللهِ لِلوهلةِ الأولى، فقدْ كانَ هذا هوَ الاختبارَ الحقيقيَّ الأولَ لَهُ. تذكّرَ وصيةَ والدِهِ: “لا تخفْ منْ أرواحِ الأمواتِ، بلْ خَفْ منْ غفلةِ الأحياءِ”. استعانَ عبدَاللهِ بِالمعوذاتِ وآياتِ القرآنِ، وشجّعَ نفسَهُ على الثباتِ، ثمَّ بدأَ يتبعُ الصوتَ.

قادَهُ الصوتُ إلى ركنٍ مظلمٍ في المقبرةِ، حيثُ وجدَ روحَ طفلٍ صغيرٍ مُضيءٍ، وهوَ الطفلُ سليمٌ نفسُهُ الذي التقى بِوالدِهِ عادلٍ لِأولِ مرةٍ. كانتْ روحُ سليمٍ تبتسمُ بِسعاةٍ غامرةٍ، وعيناهُ تلمعانِ بِالنورِ.

الطفلُ سليمٌ: “أهلاً بكَ يا عمَّ عبدَاللهِ! لقدْ كنتُ أنتظرُكَ! والحمدُ للهِ أنَّ أمانةَ الحراسةِ لمْ تنقطعْ. لقدْ كنتُ أراقبُ والدَكَ الشيخَ عادلًا وجَدَّكَ الشيخَ منْ قبلِهِ، وهما يُعيدانِ الحقوقَ ويُخفّفانِ العذابَ. لقد كانا الأبَ والجَدَّ الحانيَ لنا جميعاً بِدعائهمْ واهتمامِهمْ بنا نحنُ أهلَ القبورِ.”

أومأَ عبدُاللهِ برأسِهِ، وقلبُهُ يزدادُ هدوءاً وثباتاً.

الطفلُ سليمٌ: “لقدْ أكرمنيَ اللهُ كثيراً بِفضلِ دعاءِ جَدّكَ ووالدِكَ لِي. جئتُ اليومَ لِأبشّرَكَ بِالسعادةِ، وأطلبَ منكَ ألا تخافَ منَ القادمِ. استمرَّ فيما كانَ يقومُ بِهِ جَدّكَ ووالدُكَ منْ قبلُ، فإنَّها رسالةٌ مقدّسةٌ تُنجي الأحياءَ والأمواتَ. لا تدعْ قلبَكَ يميلُ عنِ الحقِّ، ولا لسانَكَ ينطقُ بِباطلٍ.”

عهدُ الأرواحِ العظيمُ

قبلَ أنْ يختفيَ الطفلُ سليمٌ، حدثَ مشهدٌ مهيبٌ لمْ يحدثْ منْ قبلُ:

فجأةً، ظهرَتْ جميعُ الأرواحِ التي كانَتْ قدْ تكلّمتْ معَ الشيخِ عادلٍ، منْ أرواحِ الندمِ إلى أرواحِ النعيمِ، مُتجمّعةً حولَ عبدِاللهِ في دائرةٍ نورانيةٍ! كانتْ أرواحٌ كثيرةٌ، مُتوهّجةٌ بِمختلفِ درجاتِ النورِ، بعضُها تحملُ ملامحَ رضا، وبعضُها الآخرُ يحملُ آثارَ ندامةٍ خفيفةٍ، لكنَّها جميعاً كانتْ تنظرُ إليهِ بامتنانٍ. لمْ يكونُوا جميعاً بِالعمائمِ؛ بلْ كانَ منهمُ الرجالُ والنساءُ، الشبابُ والصغارُ، الأبيضُ والأسودُ، كما كانَ في القصصِ منْ هذهِ السلسلةِ المباركةِ.

في هذا الموقفِ الصعبِ، الذي يُمكنُ أنْ يُربكَ أقوى الرجالِ، وقفَ عبدُاللهِ بِثباتٍ، مستمداً القوةَ منْ وصايا والدِهِ وجَدِّهِ. بادرَ عبدُاللهِ بـ السلامِ على الأرواحِ جميعاً، مُخاطباً إياها بِاحترامٍ ووقارٍ.

تحدّثتِ الأرواحُ بصوتٍ واحدٍ، كَهديرِ الريحِ العظيمِ، مُعبّرةً عنْ شكرِها:

“شكراً لكَ يا عبدَاللهِ، وِشكراً لوالدِكَ وجَدِّكَ! على كلِّ ما قدّمتموهُ لِأجلِنا! لقدْ أعدتُم الحقوقَ، وخفّفتُم العذابَ، وشفعتُم لِأرواحٍ كثيرةٍ. نُطلبُ منكَ أنْ تُتابعَ وتستمرَّ فيما كانَ يقومُ بِهِ جَدّكَ ووالدُكَ. إنَّنا يا عبدَاللهِ، في الحقيقةِ، عائلتُكَ الثانيةُ! المقبرةُ ليستْ مكاناً لِلأمواتِ فحسبُ، بلْ هيَ مدرسةٌ لِلأحياءِ، ونحنُ نُرحّبُ بِكَ يا وارثَ الأمانةِ!”

فرحَ عبدُاللهِ كثيراً بهذا الموقفِ المُهيبِ والجميلِ في نفسِ الوقتِ. شعرَ بِمسؤوليةٍ عظيمةٍ، لكنَّهُ شعرَ أيضاً بِدِفءٍ وحُبٍّ يحيطُ بِهِ منْ هذهِ الأرواحِ التي أصبحتْ عائلتَهُ الثانيةَ.

اختفتِ الأرواحُ جميعاً، تاركةً عبدَاللهَ وحيداً في المقبرةِ. كانتْ قطعُ الذهبِ تلمعُ على الأرضِ كما لمْ يرَها منْ قبلُ، وهنا علمَ عبدُاللهِ مصدرَ الرزقِ والثراءِ الذي كانَ يتنعمُ منهُ هوَ وأهلُهُ والذي تقاسَمَهُ جَدُّهُ ووالدُهُ معَ أهلِ المدينةِ منَ المساكينِ والمحتاجينَ. رفعَ عبدُاللهِ يديهِ إلى السماءِ، وقلبُهُ يلهجُ بِالشكرِ.

عبدالله (في نفسِهِ): “الحمدُ للهِ الذي منَّ عليَّ بهذهِ النعمةِ العظيمةِ! شكراً لِوالديَ، وشكراً لِجَدّيَ الذي بدأَ هذهِ الرحلةَ المقدّسةَ. يا ربِّ، وفّقْنيَ وسدّدْ خُطايَ لِأكونَ خيرَ خلفٍ لِخيرِ سلفٍ، ولِأستمرَّ في حملِ هذهِ الأمانةِ العظيمةِ.”

الخاتمةُ السعيدةُ: فجرٌ جديدٌ لِأمانةٍ مُتجدّدةٍ

وبِذلكَ، يكونُ أهلُ القبورِ قدْ بايعُوا الحارسَ الجديدَ، عبداللهَ، وبدأتْ قصصٌ ومواقفُ وحكايا جديدةٌ منْ عالَمِ الأحياءِ والأمواتِ، تُروى على لسانِ حارسِ المقبرةِ الجديدِ. المقبرةُ لمْ تعدْ مكاناً يُخشى منهُ، بلْ أصبحتْ منبعاً للحكمةِ والعدلِ، وروضةً لِلأرواحِ التي وجدتْ طريقَها إلى التطهيرِ والسماحِ، وذلكَ بفضلِ عائلةٍ توارثتْ أمانةَ حراسةِ أرواحِ الأمواتِ. كانتْ نهايةً سعيدةً لِعادلٍ، وبدايةً مُباركةً لِعبدِاللهِ، في روايةٍ لمْ تنتهِ قصصُها، بلْ بدأتْ فصولُها تتجدّدُ معَ كلِّ حارسٍ أمينٍ

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى