
الفصل الثالث –
كهرمانة
> حبُّك أوصلني طريقَ المهالك،
لا أقدر أن أقتربَ منك، ولا أستطيع أن أنساك.
أبعدُ من نجومِ السماءِ مسافةُ وصالك،
يا من صعُبَ نيلك، واشتدَّ وجعُ فُرقاك.
—
كانت الكلمات تتردّد في ذهن “عادل” كأنها أنينُ روحٍ ضائعة بين الرجاء واليأس.
لم يكن يظنُّ أن قلبه سيُبتلى بحبٍّ تُغلق في وجهه كلُّ الأبواب، لا لذنبٍ جناه، بل لأن والدته خديجة رفضت زواجه من حبيبته رفضا قاطعًا.
والسبب؟ لأن أمَّ الفتاة “لم تأتِ على مزاجها”!
وقف عادل أمام مرآة قلبه يحدث نفسه قائلًا:
> “ما ذنبي أنا؟ وما ذنب ابنتها؟ لماذا يُحكم عليّ بالموت وأنا حيّ؟”
جرّب كل الوسائل، حاول باللين تارة وبالدموع تارة أخرى، حتى انحنى يقبّل قدمي والدته علّها ترضى.
لكن خديجة كانت عنيدة، لا تتراجع إذا قالت، ولا تلين إذا عزمت.
الكل في البيت يعرف أن رأيها كالسيف… لا يُردّ.
تنهد عادل وقال في سرّه:
> “الآن فهمت لِمَ توفي أبي وهو صغير، لعلّه تعب من عنادها!”
ثم رفع بصره إلى السماء هامسًا: “رحمك الله يا أبي…”
—
عادل: يا والدتي، ما رأيك في الفتاة؟
خديجة: البنت لا عيب فيها، أدب واحترام وجمال… لكنها طالعة على جدّتها أم أبيها، رحمها الله.
كنا نراها من بعيد كقطعة نور، وكنّا نسميها “بنت البيضة” من شدة بياضها.
ثم عقدت حاجبيها وقالت باستياء: لا أدري ما الذي جعل والدها يتزوج تلك العجمية! ليست من بنات العرب، من بنات فارس! حتى لغتها العربية مكسّرة لا تُفهم.
ضحكت فجأة وأضافت وهي تنظر إليه نظرة الأم المقتنعة برأيها:
> “تصدق؟ كلما أراها في عرس النساء يسخرن من كلامها، وهي تحاول تتكلم مثلنا، لكن لهجتها غريبة. دعها وشأنها، وتزوّج بنتًا من بنات العرب، أصلٌ وفصلٌ، ولا تعيد الكلام كأنك أصمّ لا تسمع!”
كان عادل يصغي بصمتٍ، محاولًا أن يجد ثغرة في جدار الرفض:
> “لكن يا أمي، والدة الفتاة امرأة محترمة، ونحن جيران منذ سنين، لم نسمع منهم إلا الخير.”
لكن خديجة رفعت يدها قاطعة الحديث:
> “تريد أن أغضب عليك؟ تزوّجها إذًا غصبًا عني إن كنت تجرؤ!”
سكت عادل، وقد بدأ ضوء الأمل يخفت شيئًا فشيئًا، وقال بصوتٍ خافت:
> “يا أمي، البنت ستعيش معنا، وستكونين أنت أمّها الثانية…”
فصرخت خديجة وقد احمر وجهها غضبًا:
> “مستحيل! أتريد أن نكون حديث نساء الحارة؟ يقولن: ولد خديجة تزوّج بنت كهرمانة؟! مستحيل، ألف مستحيل!”
—
خرج عادل من البيت مثقلاً بالهمّ.
الريح تمرّ على وجهه كأنها صفعات الواقع.
توقّع أن والدته تمزح، وأن الأيام ستلين قلبها، لكن الأيام تمضي، والحبيبة تضغط عليه ليتقدم رسميًا، وهي تظن أن التأخير منه، لا تعلم أن أمّه هي السدّ العظيم الذي يقف في طريق حبه.
جلس على الرصيف يفكر:
> “ليت أبي كان حيًا، لكان سندي الآن… ما الحل؟”
تذكّر أخاه سعد، الأصغر منه سنًا، لكنه الأقرب إلى قلب الأم.
قال في نفسه:
> “ربّما يسمع الله دعائي على يده.”
روى له ما حدث، وهو يقول متوسلاً:
> “ساعدني يا سعد، أمي لا تسمع مني، لكنّها تسمع منك. أنا أريد أن أتزوج بالحلال، ولا أريد أن أغضبها، فدعوة منها وهي غاضبة كفيلة بأن تدمّرني.”
أطرق سعد رأسه، ثم قال:
> “لنذهب إلى إمام المسجد… لعلّ الله يجعل في كلامه نورًا يقنعها.”
—
بعد صلاة الجمعة، جلسا مع الإمام، فبدأ عادل كلامه بصوتٍ حزين:
> “يا شيخ، أريد أن أتمّ نصف ديني، لكن والدتي ترفض الفتاة، لا لشيء، إلا لأن أمّها ليست عربية.”
رفع الشيخ رأسه وقال متعجبًا:
> “سبحان الله! يا بني، كلنا من آدم، وآدم من تراب. لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.”
قال عادل:
> “قلت لها ذلك، لكنها تخشى أن يكون أولادي غدًا يتكلمون بلسانٍ غير عربي، فتقول: سيخرج كلامهم مكسّرًا!”
ابتسم الشيخ وقال ممازحًا:
> “ولماذا؟ هل هم من صنع الآلات؟ ليسوا شواصي كامري يا ولدي!”
ضحك سعد، وقال موضحًا:
> “يا شيخ، تقصد أن كلامهم سيكون نصفه عربي ونصفه أعجمي.”
فضحك الشيخ أكثر وقال:
> “ومن أخبرها بالغيب؟ وهل تعرف ما سيكون عليه أبناؤك؟! هذا جهل بالدين يا ولدي.”
تنهد عادل وقال برجاء:
> “فبمَ تنصحني يا شيخ؟”
قال الشيخ بهدوء:
> “لا تغضب والدتك، فبرّها أولى، ولكن حاول أن تقنعها بالحسنى، ذكّرها بقول الله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وسأتحدث في خطبتي القادمة عن هذا الأمر، لعل الله يلين قلبها.”
ثم سأله مبتسمًا:
> “وهل والد الفتاة من أهل البلد؟”
أجابه عادل بفخر:
> “نعم، من ظهر الدار وبطنها!”
ضحك الشيخ قائلًا:
> “ظهرها وبطنها؟! أهو إنسان أم سلحفاة؟!”
ضحك الثلاثة، وخفّت عن قلوبهم بعض الغمامة، ثم قال الشيخ وهو يودعهم:
> “اذهبا، واستودعا أمركما لله، فما كُتب لكما لن يمنعه بشر.”
—
خرج عادل وأخوه من المسجد، ونسيم الجمعة يداعب وجهيهما، فابتسم الشيخ من بعيد وقال في نفسه:
> “وكأن الزمان يعيد نفسه… لقد أحببت يومًا فتاة اسمها كرستينا، ورفضت والدتي زواجي بها لأنها غير مسلمة، ولو أنها أسلمت، لكنت اليوم أعيش معها في سلام.”
ثم رفع بصره إلى السماء هامسًا:
> “ما كُتب للإنسان لن يخطئه… وما أخطأه لن يُدركه.”
وفي زاوية الطريق، سار عادل وهو يهمس كمن يواسي نفسه:
> “ماشي نصيب… ماشي نصيب.”