
عبارة “إظلام تام… والتيار الكهربائي يعود تدريجيًا” صارت مشهدًا يوميًا مألوفًا في نشرات الأخبار وتقارير الكهرباء ، تعكس واقعًا مأزومًا يعيشه السودان منذ سنوات، وازداد تعقيدًا مع اندلاع الحرب. وما حدث مؤخرًا في سد مروي 1250 ميقاواط ، من خروج مفاجئ عن الخدمة بسبب “زيادة الأحمال” لا يمثل حادثًا عرضيًا بقدر ما هو وجه من وجوه الانهيار المستمر في هذا القطاع الحيوي.
في ظل الظرف السياسي والأمني الراهن، بات قطاع الكهرباء مرآة لعجز الدولة وفشلها في ضمان استدامة الخدمات الأساسية. تكرار خروج سد مروي من الشبكة القومية وما يتبعه من انقطاع واسع، ثم الحديث عن “عودة جزئية”، يكشف عن هشاشة البنية التحتية للطاقة، ويطرح تساؤلات كبرى حول قدرة الدولة على تأمين هذا القطاع، وحول السيناريوهات الممكنة لإنقاذه.
الانقطاع الأخير للتيار الكهربائي سلط الضوء على المشكلات البنيوية المتراكمة. فالشبكة القومية تعاني منذ سنوات من أعطال متكررة نتيجة غياب الصيانة وضعف الاستثمار وتقادم المعدات. ومع الحرب، تفاقم الوضع باستهداف ممنهج للبنى التحتية، خاصة من قبل مليشيا الدعم السريع التي عمدت إلى تخريب محطات نقل وتوليد الكهرباء. المشكلة لم تعد في انقطاع التيار فحسب، بل في تعطيل دورة الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي برمتها.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن أقصى طلب على الكهرباء في عام 2022 بلغ 3,454 ميغاواط، بينما لم يتجاوز التوليد 2,744 ميغاواط. هذه الفجوة البالغة 710 ميغاواط تمثل خطرًا استراتيجيًا على الاقتصاد الوطني، خصوصًا مع تزايد الطلب من القطاع الصناعي والخدمي. وفي ظل هذا العجز، أصبحت القطوعات المبرمجة وتخفيف الأحمال سياسة رسمية، لكنها في الواقع تشل حركة الإنتاج وتعيق الاستثمار وتفاقم معاناة المواطنين.
يدار قطاع الكهرباء في السودان عبر هيكل مملوك بالكامل للدولة، لكنه يعاني تشوهات مزمنة: ضعف في التحصيل، فاقد فني وإداري يقدَّر بـ 28% من الإنتاج، إضافة إلى ارتفاع تكاليف التشغيل واعتماد شبه كامل على الوقود الأحفوري. فقد بلغت فاتورة الوقود بحسب منشورات في 2022 نحو 722 مليون دولار، بينما لم يتجاوز الدعم الحكومي 274 مليون جنيه، وهو رقم هزيل لا يغطي العجز الهيكلي ولا يسمح بالتوسع.
رغم هذا الواقع القاتم، يملك السودان فرصًا واعدة إذا أحسن استغلالها. فإمكاناته في مجال الطاقة الشمسية والرياح هائلة، ويمكن أن تمثل الطاقة المتجددة حلًا استراتيجيًا لتقليل الاعتماد على الوقود التقليدي. كما أن مشروعات الربط الكهربائي مع مصر وإثيوبيا توفر خيارًا لتعزيز الاستقرار في التزويد وتبادل الطاقة بتكلفة أقل.
أحد الحلول المجربة عالميًا هو نموذج الشراكة مع القطاع الخاص أو الأجنبي عبر نظام البناء والتشغيل والتحويل (BOT)، حيث يقوم المستثمر بتمويل وإنشاء وتشغيل محطة التوليد لفترة محددة قبل تحويلها للدولة. وقد أثبت هذا النموذج نجاحه في مصر والمغرب والصين وتركيا، حيث جذب استثمارات ضخمة وحقق قفزات في كفاءة التوليد.
في حالة السودان، يُمكن لـ BOT أن يساهم في: جذب التمويل الأجنبي دون تحميل الدولة أعباء مباشرة. بجانب نقل التكنولوجيا والخبرات الفنية.
كذاك تقليل الفاقد وتحسين الكفاءة. أيضاً تعزيز الشفافية والكفاءة التشغيلية من خلال إشراف مؤسسي واضح.
لكن نجاح هذا النموذج مرهون بعدة شروط، أهمها: وجود إطار قانوني منظم وشفاف يحمي المستثمر والدولة. بالإضافة إلى استقرار سياسي وأمني يشجع المستثمرين. إصلاح تعرفة الكهرباء لتكون معبرة عن التكلفة، دون تحميل المواطن عبئًا لا يُحتمل.
كذلك لا يمكن الحديث عن إنعاش قطاع الكهرباء دون معالجة العوائق الجوهرية، وعلى رأسها التخريب الممنهج للبنية التحتية جراء الحرب وغياب الصيانة الدورية. إذ يعاني السودان من نقص حاد في عمليات الصيانة الوقائية، الأمر الذي أدى إلى تدهور محطات التوليد وشبكات النقل والتوزيع، مما يجعل أي استثمار جديد في الطاقة مهددًا منذ لحظته الأولى.
استراتيجية إنقاذ قطاع الكهرباء في السودان يجب أن تقوم على ثلاث ركائز رئيسية: أولاً تأمين البنية التحتية ضد الاستهداف والتخريب، وهو أمر لا يتحقق إلا في إطار استقرار سياسي يستعاد بموجبه الأمن والسلام.
ثانيا: إصلاح مؤسسي وهيكلي يشمل الحوكمة، والشفافية، والتحصيل المالي المنضبط ، مع تحديث الإطار القانوني لتنظيم الاستثمار.
ثالثا :دعم الاستثمار الأجنبي والخاص في مجالات التوليد والنقل والتوزيع والصيانة الدورية خاصة من خلال نماذج الشراكة مثل BOT، وفتح المجا…