
كان الليل ساكنًا إلا من رنين الهاتف الأرضي الذي اخترق صمت مكتب النقيب سامح كرصاصةٍ في الظلام. حدّق في الجهاز لحظةً قبل أن يلتقط السماعة بعصبية، كأن قلبه كان يعرف أن الصوت القادم لن يحمل إلا كارثة.
النقيب سامح: — نعم، ملازم علي… ماذا لديك؟
الملازم علي (يتنفس ببطء، صوته مثقل بالخبر): — سيدي… وجدنا نبيل، صديق القتيلة، مقتولًا في مكبّ النفايات الكبير عند أطراف المدينة.
ارتجف قلب النقيب، وتهشّم صمته الداخلي. رفع يده وصفع الطاولة بعنف حتى ارتجّت الأوراق وتبعثرت الملفات.
النقيب سامح (بصوت مجلجل): — ماذا؟! مقتول؟! كيف قُتل؟ هل هو عمل فردي أم عصابة؟
ساد صمتٌ قصير عبر الخط، ثم أضاف الملازم علي: — الجثة وُجدت ملقاة بين أكوام القمامة، موثوقة اليدين، وعلى صدره جرح غائر كأنه طُعن بخنجر. بجانبه هاتفه المحمول محطم تمامًا، وكأن القاتل أراد محو أي أثرٍ لتواصله.
تسارعت أنفاس سامح، ثم ضرب الطاولة مرةً أخرى حتى تردّد الصدى في الجدران.
النقيب سامح: — اللعنة! هذا الشاب كان الشاهد الوحيد، وفي نفس الوقت المشتبه الوحيد… بمقتله عدنا إلى نقطة الصفر!
نهض واقفًا، يدور في المكتب كوحشٍ محاصر، ثم توقف فجأة وقال بصوتٍ غليظ: — والله لن يهرب القاتل. لو كان في آخر الدنيا، سنجلبه إلى تونس مدحورًا خائبًا.
جلس بعد لحظة غضب، وكأن شعلة من الهدوء الحذر انبثقت داخله، ثم أردف: — اسمع يا علي… لا أريد للصحافة أن تشمّ رائحة هذا الخبر. نحن لا نحتاج مزيدًا من الفوضى، والبلبلة أخطر من الرصاص. ليكن التحقيق سرّيًا حتى نجد الخيط الذي يقودنا للقاتل.
تردّد صوت الملازم علي عبر السماعة: — هناك شيء آخر يا سيدي… وجدنا ورقة صغيرة داخل جيب نبيل، مبللة بالدم، مكتوب عليها بخطٍ متعرج: “من يقترب من الحقيقة… مصيره الموت.”
انقبض قلب سامح، وارتعشت يده التي لا تعرف عادةً الارتعاش. تمتم بينه وبين نفسه: — إذن نحن أمام قاتلٍ لا يعبث… قاتل يعرف جيدًا كيف يترك بصمته المرعبة.
أغلق الهاتف ببطء، ثم نظر من النافذة نحو المدينة الغارقة في الظلام. شعر أن عاصفة أكبر تتشكّل في الأفق، وأن قضية عائشة لم تبدأ بعد… بل بدأت للتو.
—