قصائد و مقالات

“الحكمة في الصمت” ​سقراط الفيلسوفُ الذي هزمَ الضجيجَ بالهدوءِ؟

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي / سلطنة عمان-مسقط

​في أثينا القديمة، أعظمِ مدنِ العالمِ القديمِ، وُلدَ سقراطُ. لمْ يكنْ هذا الفيلسوفُ يملكُ مالًا أو عقارًا، ولمْ يكنْ يهتمُّ بالغدِ مثلَ عامةِ الناسِ. كانتْ ثروتُهُ الحقيقيةُ في عقلهِ، وفكرِه الذي لم يتوقفْ عنْ التساؤلِ. لقدْ أسسَ سقراطُ الفلسفةَ الغربيةَ على مبدأٍ واحدٍ بسيطٍ: “أعرفُ أنني لا أعرفُ شيئاً”، مُعلناً أنَّ بدايةَ الحكمةِ هيَ الوعيُ بالجهلِ.
​كانَ سقراطُ يرى أنَّ الحياةَ التي لا تُعاش بوعيٍ وتساؤلٍ لا تستحقُ أنْ تُعاش. وأنَّ العقولَ القويةَ تُناقشُ الأفكار، بينما تضيعُ العقولُ الضعيفةُ في نقاشِ الأشخاصِ. لقدْ أدركَ مبكراً أنَّ الوعيَ هوَ كنزُ الإنسانِ، والجهلَ هوَ مصيبتُهُ.
​دروسٌ في الحكمةِ: منْ حمارٍ إلى زوجة
​كانتْ حكمةُ سقراطَ عمليةً لا نظريةً. في يومٍ ما، سألَهُ أحدُ تلاميذهِ: “ماذا تفعلُ لوْ أهانكَ أحدٌ؟”
​أجابَ سقراطُ بهدوئِهِ المعهودِ: “إذا ركلَني حمارٌ، هلْ أُقاضيهِ أمْ أشتكي منهُ أمْ أركلهُ؟”
​لمْ يجدِ السائلُ جواباً، فأوضحَ سقراطُ حِكمتَهُ: أنَّ المقاضاةَ إهدارٌ للوقتِ معَ الجاهلِ، والشكوى قدْ تجعلُ منكَ أضحوكةً، وردُ الركلةِ سيجعلكَ مثلَهُ. والحلُّ الوحيدُ هوَ أنْ تمضيَ في طريقكَ، تاركاً الجهلَ خلفَكَ. هكذا تحافظُ على كرامتِكَ، وتوفرُ طاقتَكَ، ولا تنزلُ لمستوى الآخرِ، وتبقى سيّدَ الموقف.
وكان ​في حضرةِ زوجتِهِ: أسمى درجاتِ الحكمةَ ​كانتِ الحكمةُ في الصمتِ هيَ درعَ سقراطَ الحقيقيَّ، وقدْ اختبرتْهُ الحياةُ في أعظمِ محنِها: في بيتِهِ. لقدْ كانتْ زوجتُهُ “أكزانتيب” التى تزوجها وهي صغيرة وانجب منها ثلاثة أبناء معروفةً بطبعِها الحادِّ ولسانِها السليطِ. كانتْ تُكْثرُ الشجارَ معَهُ، مما جعلَهُ يغادرُ المنزلَ فجراً ويعودُ بعدَ غروبِ الشمسِ، باحثاً عنْ سلامِهِ. ورغمَ ذلكَ، كانَ سقراطُ يقولُ إنَّهُ مدينٌ لها، لأنها علّمتْهُ أنَّ الحكمةَ في الصمتِ، وأنَّ السعادةَ في الهربِ منَ الجدالِ.
​في أحدِ الأيامِ، وأمامَ تلاميذهِ، قامتْ زوجتُهُ بسكبِ الماءِ عليهِ. فمسحَ سقراطُ وجهَهُ بهدوءٍ، وابتسمَ قائلاً: “بعدَ كلِّ هذا الرعدِ، كانَ لا بدَّ أنْ تُمطِرَ.” فضحكَ الجميعُ منْ حِكمتِهِ، ولمْ يشعرْ بالمهانةِ.
​ظلَّ سقراطُ صامتاً صامداً أمامَ انفعالاتِها ومشاحناتِها، مما جعلَها تستهلكُ منْ داخلِها. وفي ليلةٍ منَ الليالي، اشتدَّ الخلافُ بينهما، فالتزمَ سقراطُ الصمتَ كعادتِهِ، لكنها لمْ تتحملْ الضغطَ النفسيَّ، فأصيبتْ بألمٍ شديدٍ في القلبِ وتُوفيتْ في تلكَ الليلةِ بسكتةٍ قلبيةٍ.
​واصلَ سقراطُ حياتَهُ بهدوءٍ، متذكّراً أنَّ الحكمةَ تكمنُ في الصمتِ، وأنَّ راحةَ البالِ لا تُقدَّرُ بثمنٍ. لقدْ علّمَنا أنَّ الصراخَ والغضبَ لا يحلانِ المشكلاتِ، بلْ إنَّ الصمتَ قدْ يكونُ أقوى ردٍّ، وأفضلَ طريقٍ للسلامِ الداخليِّ.
​لقدْ علّمَنا سقراطُ أنَّ السعادةَ الحقيقيةَ لا تكمنُ في الردِّ على الإساءةِ، ولا في التغلبِ على الآخرِ بالصوتِ العالي، بلْ في امتلاكِ النفسِ، والتحكمِ بالانفعالاتِ، وتحقيقِ راحةِ البالِ التي لا تُقدَّرُ بثمنٍ. فالعقولُ الحكيمةُ لا ترفعُ صوتَها في وجهِ الجهلِ، بلْ تكتفي بالصمتِ الذي يقولُ كلَّ شيءٍ.

بعدَ كلِّ تلكَ الحكمِ التي ألقاها على تلاميذهِ، لمْ يكنْ مصيرُ سقراطَ مختلفاً عنْ مصيرِ كلِّ منْ سبقَ عقلُهُ زمانَهُ. فقدْ حُكمَ عليهِ بالإعدامِ بتهمةِ إفسادِ الشبابِ وإدخالِ آلهةٍ جديدةٍ.
​وفي يومِ تنفيذِ الحكمِ، اجتمعَ تلاميذهُ حولَهُ وهمْ يبكونَ، بينما كانَ هوَ في قمةِ هدوئِهِ. تناولَ كأسَ السّمِ بثباتٍ، دونَ أنْ يرتجفَ لهُ جفنٌ، وقالَ كلمتَهُ الخالدةَ التي اختصرتْ حياتَهُ ومصيرَ كلِّ حكيمٍ: “ويلٌ لمنْ سبقَ عقلُهُ زمانَهُ.”
​بهذا، لمْ يمتْ سقراطُ، بلْ وُلدَ فكرُهُ. فقدْ كانَ موتهُ دليلاً قاطعاً على أنَّ الحقيقةَ أغلى منَ الحياةِ، وأنَّ الحكمةَ لا يمكنُ أنْ تُقتلَ بكأسٍ منَ السّمِ، بلْ تتوارثُها الأجيالُ جيلاً بعدَ جيلٍ.

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى