قصائد و مقالات

مجازر 8 ماي 1945… جريمة إبادة لا تسقط بالتقادم

ثمانون عامًا تمر على إحدى أبشع الجرائم ضد الإنسانية في القرن العشرين، جريمة كشفت الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي، وأكدت أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح.

في الثامن من ماي 1945، وبينما كانت الشعوب تحتفل بنهاية الحرب العالمية الثانية، خرج آلاف الجزائريين في مدن سطيف، قالمة، وخراطة، في مظاهرات سلمية يطالبون فيها فرنسا بالوفاء بوعودها بالحرية والاستقلال، وهي وعود كانت قد أطلقتها خلال الحرب مقابل دعم الجزائريين لها. غير أن الرد الفرنسي لم يكن حوارًا أو استجابة، بل كان حملة إبادة جماعية همجية لا تزال مشاهدها محفورة في الذاكرة الوطنية والضمير الإنساني.

أول شهيد سقط في تلك المجازر كان الشاب سعال بوزيد، الذي رفع الراية الوطنية في وجه الاحتلال، فكان ردّ القوات الفرنسية رصاصة غادرة فتحت أبواب الدم والدمار. طائرات، مدافع، بوارج حربية، وفرق عسكرية خاصة حاصرت مدنًا وقرى بأكملها، وقصفتها بلا رحمة، فيما تم اعتقال وتعذيب الآلاف، وتدمير ممتلكات المدنيين دون تمييز. وتقدر الحصيلة بما يزيد عن 45 ألف شهيد، بينما تشير تقارير بعض المؤرخين إلى أعداد أكبر، أخفيت بفعل التعتيم الفرنسي وتهريب الأرشيف الجزائري لاحقًا.

المجزرة، التي أدانتها حتى تقارير دبلوماسية أجنبية على غرار ما كتبه القنصل البريطاني العام جون إيريك ماكلين في تقريره إلى لندن، لم تكن حادثًا عارضًا، بل تعبيرًا عن سياسة استعمارية ممنهجة، تُجرّمها القوانين الدولية وتُحمّل مرتكبيها المسؤولية الجنائية المباشرة.
ولم تكتفِ فرنسا بالمجزرة، بل عمّقت جراح الجزائريين بدستور الجمهورية الرابعة الذي نصّ على أن الجزائري ليس سوى “مواطن من الدرجة الثانية”، وهي النظرة العنصرية التي ستستمر حتى نيل الاستقلال.
وفي هذا السياق، يكتسي قرار رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، بترسيم 8 ماي يومًا وطنيًا للذاكرة أهمية تاريخية وأخلاقية كبيرة، كونه اعترافًا رسميًا بعظمة التضحيات، وإعادة اعتبار لشهداء “الكرامة والحرية”، ورسالة إلى الأجيال مفادها أن السيادة الوطنية كُتبت بالدم، ولا يجوز التفريط في ذاكرتها أو التهاون في الدفاع عنها.

إن مسيرة الشعب الجزائري، التي توجت بثورة أول نوفمبر 1954، استمدت قوتها من رمزية الشهداء ومن بشاعة ما اقترفه الاستعمار، وهو ما جعل الذاكرة الوطنية قضية مركزية في وجدان الدولة الجزائرية. فرغم مرور ثمانية عقود، لا تزال فرنسا تماطل في الاعتراف الكامل والاعتذار الصريح، وتُصر على حجب الأرشيف، وحماية مرتكبي الجرائم بقوانين تبرر الماضي الاستعماري.

لكن رغم ذلك، تبقى الراية التي استشهد من أجلها سعال بوزيد مرفوعة، تُزين متحف المجاهد بسطيف، وتُلهم أجيالًا من الجزائريين الوفاء للعهد، والتشبث بقيم التحرر والسيادة، وتجديد المطالبة بكشف الحقيقة التاريخية كاملة دون تزييف أو انتقاء.

إن مجازر 8 ماي 1945 ليست فقط ذكرى، بل دعوة للضمير العالمي لمساءلة الجرائم الاستعمارية، وتذكير بأن العدالة الحقيقية لا تسقط بالتقادم، وأن الذاكرة الجزائرية ستبقى حية، عصية على النسيان أو التزييف.

بقلم: مهاجري زيان
رئيس الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية – جنيف، سويسرا

جنيف: 8 ماي 2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى