منبر جدة : هل أكلت دابة الأرض منسأته؟
✍️ إبراهيم شقلاوي :
شهدت الساحة السودانية تحولات ميدانية كبيرة في الأسابيع الأخيرة مع تقدم الجيش السوداني في معركة استعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم من قبضة مليشيا الدعم السريع . في هذا السياق يطرح سؤالا مهما : هل سيكون منبر جدة وسيلة فعالة لتحقيق الأمن والسلام في السودان بعد كسرة شوكة التمرد أم تم تجاوزه ؟ في هذا المقال نحاول مناقشة أهمية انتقال السودان من حالة الحرب إلى رحاب السلام ، مع قراءة مبصرة إلى أهمية طي ملف المليشيا للأبد حتي تنعم البلاد بالأمن بصورة تمكن من بناء مستقبل أفضل للسودانيين .
في 11 مايو 2023 وقع الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع اتفاقًا في مدينة جدة السعودية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية بهدف وقف الحرب حيث أقر الإتفاق إخراج مليشيا الدعم السريع من الأعيان المدنية وإخلاء مساكن المواطنين ، إلى جانب فتح ممرات إنسانية . كما نص الاتفاق على تجميع القوات في معسكرات لتسريحها أو دمجها ضمن الجيش السوداني وفقا لقانون الجيش . ورغم أهمية هذه البنود ، إلا أن مليشيا الدعم السريع امتنعت عن تنفيذها ووسعت نطاق سيطرتها في عدة مناطق ، بما في ذلك ولاية الجزيرة ومدن أخرى مثل سنجة وجبل موية .
عقب تمكن الجيش من إستعادة هذه المناطق والسيطرة على مناطق استراتيجية في الخرطوم ، بما في ذلك أحياء بحري ووسط الخرطوم ، فضلاً عن فك الحصار عن سلاح الاشارة والقيادة العامة و استعادة مصفاة الجيلي وشركة دار سك العملة . هذه المكاسب العسكرية تأتي في وقت حساس ، مع إشارات تدل على اقتراب نهاية عهد مليشيا الدعم السريع في العاصمة .
كذلك تشير المصادر الأمنية إلى أن مليشيا الدعم السريع بدأت في إطلاق سراح مئات الأسرى والمعتقلين في سجونها ، في محاولة لتخفيف الضغط الداخلي في ظل الهزائم العسكرية المتواصلة ، حيث أشار العميد ركن نبيل عبد الله الناطق الرسمي باسم الجيش إلى تحقيق تقدم كبير في الخرطوم ، مشيرًا إلى تطهير مناطق حيوية مثل المستشفيات والمرافق العامة .
من جانب آخر أطلق قائد لواء البراء بن مالك المصباح أبوزيد ، تحذيرًا شديد اللهجة لمليشيا الدعم السريع، محددًا 12 ساعة فقط أمامها لمغادرة العاصمة الخرطوم قبل أن يبدأ الجيش المرحلة الثانية من العمليات العسكرية . هذا التهديد يعكس الثقة المتزايدة للقوات المسلحة السودانية بعد سلسلة من الانتصارات الميدانية داخل وخارج العاصمة .
كانت المليشيا وداعموها يأملون أن يمنحهم اتفاق جدة فرصة للمناورة، معتقدين أنه سيوفر لهم هدنة يعيدون فيها ترتيب صفوفهم واستجلاب مزيد من السلاح والمرتزقة . لكن الواقع سار على غير ما خططوا له ، إذ فرض الجيش السوداني وقائع جديدة جعلت الاتفاق أقرب إلى إقرار بالهزيمة منه إلى تسوية سياسية .
لذلك باتت جدة الآن ليست تفاوضا بين قوتين ، بل لقاءً يرسم طريق الاستسلام ، مع إتاحة فرصة للمليشيا لتجميل سقوطها بعبارة “اتفقنا” بدلًا من “انهزمنا”. ومع ذلك لم تستطع حتى الالتزام بمخرجات الاتفاق لأن هدفها الحقيقي لم يكن السلام ، بل كسب الوقت لكن حساباتها أخطأت ، فانقلب عليها كل ما سعت إليه ، وتسارعت خطى نهايتها المحتومة .
في ظل هذا التقدم العسكري للجيش الذي قابله انهيار للمليشيا بحسب خبراء عسكريين ، تزداد الضغوط الدولية والإقليمية لإنهاء الصراع في السودان، خاصة مع اقتراب شهر رمضان المبارك . في هذا السياق ، تظهر جهود تركيا ومصر في تقديم الوساطة ، حيث أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن التنسيق الوثيق مع القاهرة بهدف إنهاء الاشتباكات قبل رمضان . من جانبها سبق أن أكدت الإمارات دعمها للوساطة التركية للجمع بينها وبين السودان ، وقد تمت تسريبات عقب ذلك تتحدث عن شروط متبادلة هذا بالإضافة الي مساعي مصرية تجري خلف الكواليس كشفت عنها زيارة قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أبوظبي في وقت سابق فضلا عن تصريحات سابقة ايضا للخارجية السعودية ومجلس التعاون الخليجي بضرورة احلال السلام في السودان .
هذه الجهود تتزامن مع تنامي عزلة دولية لمليشيا الدعم السريع ، التي باتت تواجه انتقادات متزايدة بسبب الانتهاكات التي ارتكبتها قواتها في دارفور ومناطق أخرى . كما أن المطالبات الدولية بفتح باب التفاوض مع الحكومة السودانية لتنفيذ بنود اتفاق منبر جدة تعكس تزايد الضغط على المليشيا من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات. هذا فضلا عن حديث رشح في الساحة السياسية السودانية عن أن المليشيا أعلنت قبولها بتنفيذ إتفاق جدة للترتيبات الأمنية من واقع الضغط الميداني الكثيف الذي بدأت تعاني منه من الجيش في جميع محاور القتال .
بالنظر الي تلك المجهودات يظل هناك عامل مهم يجب النظر إليه بعين الاعتبار وهو المشاعر السائدة بين السودانيين التي تميل إلى دعم الحسم العسكري على حساب المفاوضات ، حيث يمكن فهم هذا الاتجاه في سياق الانتهاكات الواسعة والفظيعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع. فقد تعرض المواطنين السودانيين لجرائم حرب تشمل القتل الجماعي والتهجير القسري والتدمير المتعمد للمرافق المدنية وفقا لمنظمات حقوقية ، ما ترك أثرًا عميقًا في الذاكرة الجماعية للشعب. هذا الواقع دفع العديد من السودانيين إلى الإيمان بأن الحسم العسكري هو السبيل الوحيد لتحقيق العدالة وإنهاء معاناتهم المستمرة .
رغم ذلك هناك تجارب إقليمية ودولية تظهر أن المفاوضات قد تحدث حتى في حالات التفوق العسكري لضمان استدامة السلام والتزامات اعادة الأعمار على سبيل المثال: حرب فيتنام (1973): رغم أن القوات الأمريكية كانت في مرحلة الانسحاب بعد تكبدها خسائر فادحة، إلا أن المفاوضات بين أمريكا وفيتنام الشمالية استمرت بضغط من المجتمع الدولي بهدف تجنب المزيد من التصعيد العسكري في المنطقة وعدم العودة للحرب .
كذلك في حرب البوسنة (1992-1995): رغم التفوق العسكري للقوات البوسنية تم التوصل إلى اتفاق دايتون للسلام في نهاية الحرب نتيجة لضغوط دولية وأممية هدفت إلى إنهاء الصراع واستعادة الاستقرار الإقليمي بجانب ضمان اعادة الإعمار .
عليه وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن فرص إعادة منبر جدة إلى الواجهة تعتمد على اقرار المليشيا وداعميها بالهزيمة ، لتنفيذ بنود الاتفاق العسكري المتعلق بالتسريح وإعادة الدمج بجانب تعزيز الضغط الدولي والإقليمي لضمان إعادة الإعمار واستدامة السلام، أو أن يترك هكذا لتأكل دابة الارض منسأته .
دمتم بخير وعافية .
السبت 8 فبراير 2025 م [email protected]