أخبار المجتمعأخبار ثقافيةأخبار دوليةأخبار عربيةأخبار محليةالآنالصحةحوادثعـــــاجلمنوعات
وزارة الأوقاف تعيدنا إلى جلال الزمن الجميل
الكتاتيب.. جسور ممتدة بالخير بين الزمن الجميل والمستقبل المشرق بقلم د/ أحمد علي سليمان

وزارة الأوقاف تعيدنا إلى جلال الزمن الجميل
بقلم
الدكتور/ أحمد علي سليمان
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
-
الكتاتيب.. جسور ممتدة بالخير بين الزمن الجميل والمستقبل المشرق
-
إحياء الكتاتيب يؤكد أن مصر ستظل منارة للعلم والإيمان وبناء الإنسان
-
تطوير الكتاتيب ابتكار استراتيجيات تجمع بين الإرث التربوي ومواكبة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية
-
تسعى المبادرة لبناء جيل يجمع بين الحداثة والأصالة، ويحمل قيمًا تبني المجتمع وتحميه
الكتاتيب هي الملاذ الآمن لفلذت القلوب والأكباد، وهي الأرض الخصيبة لزراعة القيم، والحاضنة التربوية المأمونة على العقول والقلوب، وهي الرَّحم المبارك الذي خرَّجَ النبلاء، والقُرَّاء، والأدباء، والعلماء، والفقهاء، والفلاسفة، والسياسيين، والدبلوماسيين، والعباقرة في شتى المجالات… ودَرَسَ فيها لفيفٌ من إخوتنا شركائنا في الوطن؛ ليضرب الجميع أروع الأمثلة في التسامي والتسامح والتعددية وقبول الآخر والمحبة والسلام والوئام، في تجربة مصرية ملهمة للآخرين.. وهذه الحالة الوطنية المصرية المتلاحمة صوَّرها أميرُ الشعراء أحمد شوقي (رحمه الله)، بقوله:
أَعَهِدْتَنَا والقِبْطَ إِلَّا أُمَّةً *** لِلأَرْضِ وَاحِدَةً تَرُومُ مَرَامًا؟
نُعْلِي تَعَالِيمَ المَسِيحِ لِأَجْلِهِمْ *** وَيُوَقِّرُونَ لِأَجْلِنَا الإِسْلَامَا
هَذِي رُبُوعُكُمُ، وَتِلْكَ رُبُوعُنَا *** مُتَقَابِلِينَ نُعَالِجُ الأَيَّامَا
قيم الكتاتيب:
الكُتَّاب كان له دور كبير جدًّا في تشكيل الوعي وبناء الشخصية، وترسيخ الثقافة والقيم، حيث كان أنموذجًا تربويًّا وتعليميًّا فريدًا ومؤثرًا، فلم يكن مجرد مكان لتحفيظ القرآن الكريم فقط، بل كان محضنًا تربويًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا للطفل، يتعلم فيه: القراءة، والكتابة، ومبادئ الرياضيات.. ومحضنًا لتعليم العادات والتقاليد والأصول المرعية (البروتوكول والإتيكيت والاحترام بطريقة فطرية)، وبوتقة لزراعة القيم النبيلة.
فطفل الكُتَّاب كان يحترم الشيخ، ويُقَدّر مَن هو أكبر منه سنًّا أو أكثر منه علمًا، وكان الكُتَّاب يشحذ همم الأطفال نحو التفوق والإبداع. وإضافة لما سبق كان مكانًا يضم مختلف الطبقات تحت هدف العلم والإيمان وحب الوطن وغرس القيم النبيلة، مثل: الصدق، الأمانة، الإخلاص، التقوى، الرفق، التكافل، والتكامل. فيه يحتوي الطفلُ الكبيرُ الصغيرَ، والصغيرُ يحترمُ الكبيرَ. كما كان يعلم مبادئ الحلال والحرام، ويخرج الطفل إلى الحياة وهو مشبع بالقيم الدينية والاجتماعية، مثل قبول الآخر، احترام الكبير، وصون غيبة الصديق.
ومن هذه القيم التي كان يرسخها الكُتَّاب قيمة التنافس والتفوق، ونظرا لأن القرآن ينمي المدارك والذكاءات، ويبني الوعي، ويزيد من المحصول اللغوي للطفل، لذلك فإننا نجد أن معظم طلاب كليات القمة في الأزهر الشريف، مثل: كليات الطب والهندسة والصيدلة… من حُفاظ القرآن الكريم.
شيوخ الكتاتيب ونماء الخبرة التربوية:
لقد تكوَّن في أروقة الكتاتيب فكرٌ تربويٌّ مفيد، أثرى الحياة على بساطتها وقتذاك. لقد كان المحفظون يمتلكون خبرة تربوية وتعليمية فطرية تراكمت عبر السنين، وقد ظهر مصطلح تربوي يفيد بأن لكل شيخ طريقة خاصة في التربية والتعليم، يمتاز بها ويتفرد عن الآخرين.
وشيوخ الكتاتيب الذين اصطفاهم الله لتعليم الأطفال كتاب الله، ومبادئ العلوم، كانت لهم مكانة، ومهابة، ومحبة في قلوب خلق الله، فقد عاشوا لله وبالله ومع الله، وعاش معظمهم على الكفاف في زهد قلَّ نظيره في دنيا الناس، بعيدًا عن مباهج الدنيا وزينتها وزخرفها.
والشيخ كان أمينًا على الأطفال… على عقولهم وأفكارهم وقلوبهم…، فقد كانوا يخرجون للحياة من تحت يده بإيمان فطري سليم بعيد عن التطرف، يخرجون سالمين غانمين صالحين ونافعين. وبالتالي، فإن الكتاتيب تؤهل هؤلاء الأطفال ليكونوا مواطنين صالحين يسهمون في بناء المجتمع والحفاظ عليه والدفاع عنه، والإسهام في تقدمه ورفعته.
من رباط تاريم باليمن إلى أروقة الأزهر التي أسهمت في تفاعل الحضارات:
لقد مثَّلت الكتاتيب والأربطة عبر التاريخ الإسلامي محاضن التربية الصحيحة والسليمة والتعليم الآمن الذي يغذي أنهار التسامح والوسطية والاعتدال، حيث كانت استهلال رحلة طلاب جنوب شرق آسيا إلى الأزهر الشريف من قبل، تبدأ بأن يذهب الطالب من بلده إلى رباط تاريم باليمن، ليقضي هناك فترة من الزمن، يحفظ فيها القرآن الكريم، ويتعلم مبادئ اللغة العربية، ثم يتوجه بعد ذلك إلى الأزهر الشريف.
وكان الطلاب الجدد يعيشون مع أبناء جِلدتهم القدامى في رواق الجاوة بالأزهر، يتعلمون منهم وينهلون من خبراتهم وعلومهم التي تعلمونها ويمارسون العادات والقيم التي اكتسبوها في الأزهر وفي مصر.
وعندما يلتحق الطالب بالدراسة في الأزهر الشريف، يكون مفعمًا بحماسة وحيوية ونشاط، بعد أن تدرب هناك وهنا، فيتمكن من اللحاق بزملائه العرب والمصريين، وسرعان ما يجيد التعلم وتحصيل العلوم وإتقانها.
وبعد أن يتمكن من فهم مقاصد الإسلام واللغة العربية ويبرع فيها بعد سنوات من الجهد والتعب، يبدأ بترجمة علوم الإسلام إلى لغات بلاده والعكس؛ مما يسهم في إحداث التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب.
التحديات المترتبة على غياب الكتاتيب:
كانت الكتاتيب المحاضن الآمنة لصياغة العقول وتَسْيِيجِهَا ضد الشطط، وضد مخاطر التيارات الضالة، وأدّت دورها على أكمل وجه في: التربية، والتأديب، والتعليم، والتهذيب، والتنشئة، والرعاية، والتوجيه، والإعداد، والتطوير، والتدريس، والتلقين، والتثقيف، والتوعية، والتعلّم، والتشذيب، والتزكية، والصقل والترويض، وفي زراعة القيم في نفوس الأطفال الصغار.
وكانت بمثابة المرحلة التأهيلية للمدارس يتعلمون فيها القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، ويتدربون على الالتزام والنظافة والنظام، حتى إذا ما التحق الطالب بالمدرسة يصبح مؤهلا للنجاح والتفوق والنبوغ، بل ويصبح ممن يُشار إليه بالبنان… ولقد خسرنا كثيرًا بغيابها.
لقد ظلَّت الكتاتيب تعمل بجد ونشاط طيلة قرون مضت، باعتبارها مراكز التكوين المبكر للحصانة الفكرية والمناعة السلوكية، وترسيخ المنهج الأزهري، في مجابهة: الانحراف، والغلو، والتطرف، والكراهية، والاختراق.
وعندما انحسر دور الكُتَّاب وتراجع وتقلص، وانحصر وجوده في أماكن قليلة جدًّا، وحدث ما حدث من دخول التكنولوجيا كل البيوت، ثم تمكنها وسطوتها في شتى مناحي الحياة، وما أتت به من قيم وأفكار غريــبة، كما طلَّ علينا فكرٌ متشدد لا يمكن أبدًا أن يعبر عن روح الرسالة ورحمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما ظهرت تحديات فكرية وسلوكية، وقيم بعيدة عن ثقافتنا، ولهجات غريبة، واختراقات متوالية، وتطرف ديني، وتطرف لاديني… بعد أن فقدنا المنافع والقيم النبيلة التي كان يؤديها الكُتَّاب؛ الأمر الذي يجعل من عودة الكتاتيب وتمكينها في المجتمع بشير خير للجميع.
أهمية مبادرة عودة الكتاتيب ودورها في بناء الإنسان والمجتمع:
لما استشعر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الراحل مولانا الشيخ/ عبد الحليم محمود (عليه رحمات الله)، – الخطرَ على الهُوية المصرية والعربية والإسلامية- بذل قصارى جهده، وواصل الليل بالنهار، واستثمر علاقاته الداخلية والخارجية، واستنفر الهمم، وبذل جهودا تفوق الوصف، لإنشاء المعاهد الأزهرية في كل مكان على أرض مصر؛ لتكون منارات شامخة سامقة لنشر التسامح والوسطية، والمحافظة على الهُوية الوطنية والدينية، ولتكون بمثابة حائط الصد المنيع ضد التخلف والشطط والتحديات الخارجية…
وما أشبه الليلة بالباحة، وسيرًا على الدرب المبارك الميمون، واقتفاء لنهج الأكابر أمثال شيخنا الولي التقي النقي المبارك أ.د/ عبد الحليم محمود (رحمه الله)، واستشعارا للخطر على اللغة والهوية يطلق العلامة الفاضل أ.د/ أسامة السيد الأزهري وزير الأوقاف؛ مبادرته بالغة الأهمية، من العاصمة الإدارية الجديدة، لعودة الكتاتيب في ربوع مصر، مستهلا ومفتتحًا المسابقة العالمية للقرآن الكريم الحادية والثلاثين بـ “مسجد مصر الكبير”، بقوله: “أدعو جميع القرى والمدن في مصر إلى تبني مبادرة عودة الكتاتيب؛ لأنها ليست مجرد أماكن لتحفيظ القرآن الكريم، بل هي صروح تعليمية وتربوية، تزرع القيم النبيلة، وتحفظ الهُوية، وتبني الإنسان المصري على الأخلاق الرفيعة، والفهم العميق لمعاني الدين، والانتماء الصادق للوطن، وإحياء اللغة العربية السليمة في نفوس الأجيال الجديدة.”
في رسالة تحمل للعالم عدة مضامين، ورسائل، من بينها: أن مصر التاريخ والحضارة والمستقبل، مصر الأزهر.. في جمهوريتها الجديدة، تسير على نهج الآباء والأجداد في:
-
حماية الدين واللغة والهُوية.
-
حماية لواء الوسطية والسلام.
-
رفع مشاعل النور والعلوم والآداب.