
سعيد رضواني
✍️ الناقد منير الدايري.
عندما أمسكت بـ”لقاء مع بورخيس” لأول مرة، توقفت عند العنوان. كلمة “لقاء” تحمل نكهة الصدفة والحميمية، كما لو أنها لحظة عابرة قد تُغيّر مصير من يعيشها. لكن إضافة “مع بورخيس” حوّلت هذا الوعد إلى تحدٍ فكري. خورخي لويس بورخيس، ذلك العملاق الأرجنتيني الذي بنى عوالم من المرايا والمتاهات، ليس مجرد شخصية في هذا العنوان، بل رمز للأدب نفسه، للأسئلة التي لا تنتهي، وللخيال الذي يتحدى الواقع. اختيار سعيد رضواني لهذا العنوان ليس اعتباطيًا؛ إنه إعلان طموح بأن نصه سيكون جسرًا بين الذات المغربية والأدب العالمي، بين الحاضر والماضي.
العنوان يُشبه قنطرة قديمة فوق نهر متدفق: تدعوك للعبور، لكنها تُنبئك بأن الرحلة ستكون مليئة بالدهشة والحيرة. إنه مدخل إلى عالم رضواني، حيث تتلاقى الأصوات وتتشابك الأفكار، وهو ما يعكس رؤيته ككاتب يسعى لتجاوز الحدود الثقافية دون أن يفقد جذوره.
القصة: حيث يرقص الواقع مع الحلم
تأخذنا القصة إلى رصيف يطل على البحر، مكان يبدو مألوفًا لكنه يتحول سريعًا إلى مساحة سحرية. هنا، يلتقي الراوي ببورخيس، لكن هذا اللقاء ليس حقيقيًا بالمعنى التقليدي. البحر، بأمواجه المتكررة، ليس مجرد ديكور، بل بطل صامت يحمل أسرار القصة. أتخيله كلوحة مائية: ألوان زرقاء تتداخل، ورجلان يتحدثان بينما الريح تحمل كلماتهما بعيدًا. البحر هنا هو الحد الفاصل والرابط بين الشرق والغرب، بين الواقع والخيال، وبين الذات والآخر.
الحوار بين الراوي وبورخيس يشبه نسيجًا دقيقًا من الأفكار. ليس مجرد تبادل كلام، بل رحلة فكرية تتشابك فيها الأسئلة عن الهوية، الزمن، والأدب. عندما يهمس بورخيس: “أتمنى لو كنت أنا هو أنت”، يفتح بابًا لفهم عميق: الذات لا تكتمل إلا من خلال الآخر. هذه الفكرة، المستوحاة من عالم بورخيس، يُعيد رضواني صياغتها بلمسة مغربية، حيث تتجلى الهوية العربية كحوار مستمر بين التراث والحداثة.
المرايا والمتاهات، تلك الرموز البورخيسية الشهيرة، تنبض في القصة بحياة جديدة. المرآة ليست أداة للنرجسية، بل نافذة تُظهر الراوي من خلال عيون بورخيس. أتذكر لحظة قرأت فيها نصًا لبورخيس وشعرت أنني أرى نفسي في مرآته، وهنا يفعل رضواني الشيء نفسه، لكنه يضيف طبقة أخرى: مرآة تعكس قلق المثقف العربي. المتاهة، بدورها، ليست مجرد لعبة سردية، بل رمز للحيرة الوجودية، للبحث عن معنى وسط عالم متشظٍ.
الزمن في القصة يتحرك كما لو أنه حلم متقطع. الأحداث لا تتبع تسلسلًا خطيًا، بل تتراقص بين الماضي والحاضر، مما يخلق إحساسًا بأن الراوي وبورخيس يكتبان قصة بعضهما. النهاية، بغموضها المتعمد، تترك القارئ في حالة تساؤل: من هو المؤلف الحقيقي؟ هل هو رضواني، أم بورخيس، أم أن القصة نفسها أصبحت كيانًا حيًا؟ أتذكر كيف شعرت بهذا الغموض عند قراءة “فيكسيونس” لبورخيس، لكن رضواني يضيف نكهة خاصة: دعوة للقارئ ليكون جزءًا من هذا الحلم.
رضواني: صوت يتردد بين الثقافات
سعيد رضواني، بالنسبة لي، ليس مجرد كاتب، بل حكواتي عصري ينسج قصصًا تحمل عبق المغرب وطموح العالم. أعماله، مثل “قلعة المتاهات” و”أبراج من ورق”، تحمل شغفًا بالتجريب، كما لو أنه يدعو القارئ ليضيع في متاهاته الخاصة. في “لقاء مع بورخيس”، يظهر رضواني كمثقف لا يكتفي بقراءة بورخيس، بل يتحداه، يستضيفه في نصه، ويُعيد صياغته بأسلوب يحمل بصمته الخاصة.
ما يميزه هو قدرته على التنقل بين الإرث العربي والتأثيرات الغربية. إشاراته إلى مكتبة بغداد أو مكتبة بابل ليست مجرد زخرفة، بل تعبير عن ارتباطه بجذوره. في الوقت نفسه، حواره مع بورخيس يكشف عن كاتب يثق بقدرته على الوقوف جنبًا إلى جنب مع عمالقة الأدب. أرى فيه مزيجًا من الشاعر والفيلسوف، ينسج نصوصًا تُشبه الأحلام: مألوفة وغريبة في آن.
الشهرة: نجم يتألق في سماء الأدب
كلما تصفحت مناقشات الأدب في الصحف أو المنتديات، أجد اسم رضواني يتردد بإعجاب. مجموعتاه “مرايا” و”قلعة المتاهات” أصبحتا حديث النقاد لقدرتهما على المزج بين الشعرية والتأمل العميق. روايته “أبراج من ورق” عززت هذا الحضور، حيث يُنظر إليه كصوت يُعيد تشكيل القصة القصيرة العربية. في بعض الحوارات على الإنترنت، يُوصف بأنه “كاتب يبني جسورًا بين الثقافات”، وهو وصف يلخص جوهر “لقاء مع بورخيس”.
مشاركاته في الفعاليات الأدبية، إلى جانب اهتمام الأكاديميين بأعماله، تُظهر أن شهرته تتسع. لكن رضواني لا يكتب لمجرد الإشادة. بالنسبة له، الأدب هو مساحة للسؤال، للحوار، ولخلق شيء يعيش في ذهن القارئ. أتذكر نقاشًا في مقهى أدبي حيث قال أحدهم إن قراءة رضواني تُشبه السفر: لا تعود منه كما كنت.
الربط: القصة كمرآة للكاتب
“لقاء مع بورخيس” هي انعكاس لرؤية رضواني للأدب كحوار لا نهائي. القصة تُجسد طموحا Praying Mantis للهوية المغربية، لكنها تفعل ذلك بطريقة تجعلها عالمية. اختياره لبورخيس كمحاور يكشف عن ثقته ككاتب قادر على الحوار مع الأدب العالمي، ليس كمقلد، بل كمبدع يُضيف صوته. هذا الطموح هو ما يُغذي شهرته، فهو يقدم نصوصًا تتحدى القارئ، تدعوه للتفكير، للتساؤل، وليصبح جزءًا من النص.
خاتمة
“لقاء مع بورخيس” ليست قصة تُقرأ ثم تُنسى. إنها دعوة للضياع في متاهة الأفكار، للنظر في مرآة الآخر، وللتأمل في الذات. العنوان هو الباب، والقصة هي الرحلة، وسعيد رضواني هو الدليل الذي يأخذك إلى عوالم لم تكن تعتقد أنها موجودة. شهرته المتنامية ليست مفاجأة، فمن يستطيع أن يحاور بورخيس بهذا العمق، ويجعل القارئ يشعر أنه جزء من هذا الحوار، يستحق أن يُحتفى به. أكملت القراءة، لكن القصة لا تزال تتحدث إليّ، كأنها موجة لا تهدأ.