
✍️الناقد: عبد الرحيم التدلاوي.
(الأبعاد الخفية في العلاقة):
قصة “لقاء مع بورخيس” ليست مجرد حكاية عن شخص يقابل كاتبه المفضل. بالنسبة لي، أراها كأنها غوص عميق في علاقتي بأي شخص أعتبره قدوة، وكيف يتحول هذا الإعجاب إلى أسئلة كبيرة عن نفسي، عن ذاكرتي، عن فهمي للعالم وحدود ما أعتبره حقيقيًا.
في صميم هذه الحكاية، يقف هذا “الأنا” أمام بورخيس، وشعور غريب يملأني وأنا أقرأ: هل هو مجرد معجب صغير، أم أنه يحاول أن يكون ندًا لهذا العملاق الأدبي؟ هل هذا اللقاء حقيقي أم أنه مجرد حلم أو فكرة تدور في رأسه؟ القصة لا تعطي جوابًا واضحًا، وهذا يزيد من الغموض. فكرة المرايا والكائن الثالث الذي يتكون من روحيهما تجعلني أفكر: أليس بورخيس هنا مجرد صورة في ذهني، انعكاس لذاتي المشتتة، أو ربما هو صوت أفكاري الداخلية التي ألبستها قناع شخص آخر؟ أو ربما هو ببساطة تأثير إرث بورخيس الأدبي عليّ؟
في البداية، شعرت بأن هذا “الأنا” يقف مبهورًا أمام قامة كبيرة، لكن هذا الإعجاب سرعان ما يتحول إلى رغبة في إثبات وجوده، في أن يكون للحوار توازن لا يخلو من خوف من أن يطغى عليه تأثير بورخيس. كلماته التي تشبه التحدي: “كتب الأدب هي آخر ما ينفعنا في كتابة الأدب”، تبدو كمحاولة لكسر سلطة المرجع، للبحث عن صوتي الخاص. لكن في العمق، يبقى هذا الاحتياج للاعتراف، كأنه يختبر نفسه في هذا اللقاء: هل أملك العمق الكافي لأجلس وأتحدث مع شخص بمكانة بورخيس؟
شخصية بورخيس نفسها تبدو لي كأنها تحمل وجهين في القصة. هناك صورة الشاعر والمفكر المعروف، لكن هناك أيضًا لمحات لشيء أعمق، شيء لا يُقال بوضوح. إشارة عابرة لضعف بصره تفتح بابًا للتفكير: هل أثر هذا العمى على نظرته للعالم؟ على علاقته بفكرة المرايا؟ أليس هذا التجريد واللعب بالزمن والاحتمالات جزءًا من طريقته الفنية لتعويض غياب الضوء؟ أحيانًا يبدو بورخيس كأنه يعيش في عالمه الخاص، مشغولًا بأفكاره أكثر من انشغاله بالحديث. ليس تهربًا، بل حضور حذر، كأنه يتعامل مع ظل من نفسه، وليس مع العالم الخارجي.
وبين هذا “الأنا” وبورخيس، وبين صخب معرض الكتاب وهدوء البحر، يصبح فشل اللقاء الكامل في المعرض علامة مهمة. المعرض، المكان الذي يفترض أن يكون ملتقى للمعرفة، يفشل في جمعهما. ربما لأنه مكان مليء بالرغبات والأصوات المتداخلة، أو ربما لأن اللقاء الحقيقي يحتاج إلى مساحة من الهدوء والتأمل، كما يوحي اتجاه بورخيس نحو البحر أولًا. هناك معنى في هذا التأجيل، كأن بورخيس يفضل العزلة، الهامش، على الضجيج.
الحديث عن الأدب والعلم يأخذ مكانًا مهمًا أيضًا، كنقطة التقاء بين الخيال والتجربة. يحاول “الأنا” أن يدافع عن فكرة تكاملهما، كأنه يبرر خياله العلمي أو علمه المتخيل، بينما يقدم بورخيس نفسه كمثال على هذا التداخل: الأديب الذي يستشهد بفرويد، والطبيب الذي يلهم تشيخوف. هنا، تتلاشى الحدود بين التخصصات، وتصبح القصة تأملًا في طبيعة المعرفة نفسها، وكيف يساهم الخيال في تشكيل ما نعتبره علمًا، وكيف تنبثق حقيقة أخرى من التجريد.
لكن كل هذا يدور حول فكرة “المخطط المخاتل”، هذا التعبير الذي يستخدمه “الأنا” وكأنه يعترف بأن كل ما حدث هو جزء من تدبير ذاتي، اتفاق بين الرغبة والخيال. اللقاء لم يكن مجرد حدث، بل خطة إبداعية، قصة تُكتب في نفس لحظة حدوثها. وكأن ما نقرأه ليس إلا نتاج هذا “الاحتيال الجميل”، حيث تتحول التجربة إلى حكاية، والحكاية إلى اتفاق خفي بين الكاتب وذاته.
بالنسبة لي، هذه القصة تفتح أبوابًا لقراءات مختلفة. قد يرى فيها محلل نفسي شخصية قلقة تبحث عن نموذج أو عن اعتراف. وفلسفيًا، فكرة الكائن الثالث تشير إلى وحدات جديدة تتجاوز الثنائيات. بينما قد يركز البعض على الفجوات في النص، على ما لم يُقل، لأنه في رأيهم يصنع معنى أكبر من الكلمات نفسها.
في النهاية، “لقاء مع بورخيس” ليست مجرد قصة عن لقاء، بل هي تجربة فكرية وشعورية تجعلني أسأل عن معنى أن أكون كاتبًا، عن حدود الواقع والخيال. تجعلني أرى أن اللقاء الحقيقي لا يحدث فقط في الخارج، بل في أعماقي، حيث ألتقي بظلالي، وحيث يلتقي القارئ بفهمه الخاص، وحيث ينعكس العالم في مرآتي المكسورة.