
✍️: فائل المطاعني
إلى من اقتحمت النار بيدين مرتعشتين وقلبٍ لا يعرف الخوف،
إلى من علّمتني أن الحبّ يصنع المعجزات، وأن حضن الأم هو أول وطن.
إليكِ يا من وهبتني الحياة مرتين:
مرة حين أنجبتني، ومرة حين أنقذتني.
رحلتِ عن الدنيا، لكنكِ لم ترحلي عن قلبي…
سيظل اسمك دعاءً لا يفارق لساني، وحبك نورًا يضيء طريقي إلى آخر العمر.
إلى أمي…
أهدي هذه الكلمات، وهذه الحياة.
فائل المطاعني
الولد الشقي
الفصول الأربعة
من نعم الله العظيمة على البشرية: الفصول الأربعة. صيف وشتاء وخريف، وأكيد الربيع الجميل.
طبعاً، فصل الصيف يتميّز بالأجواء الحارّة، لذلك كنّا نهرب من لهيب الصيف إلى أعماق عُمان، حيث الأجواء أجمل وألطف، سواء في الجنوب — حيث “ظفار”، المعروفة اختصاراً بـ”صلالة” — أو في الشرق، حيث الأجواء أيضًا رائعة.
كنا نشدّ الرحال إلى المنطقة الشرقية، تحديداً إلى ولاية “جعلان بني بو حسن”.
تلك الولاية لم تكن مثل ما هي عليه اليوم، بل كانت قرية صغيرة، ولكنها جميلة، تظلّلها أشجار المانجو والليمون من كل اتجاه. وعند اقتراب غروب الشمس، كنّا نتجمّع حول جدّتي، التي كانت تحكي لنا قصّة “بقرة الأيتام” — القصة التي ورثتها منها، وصرت أحكيها لاحقًا لأطفالي وأطفال العالم أجمع.
حكايتي تبدأ…
تبدأ حكايتي منذ كنت رضيعاً، بعمر سنة تقريبًا.
كانت ليلة مقمرة، والجيران يحتفلون بزفاف أحد أبنائهم. كنت حينها في المنزل، في سرير الأطفال المتحرك، بينما إخوتي الأشقياء كانوا يلعبون من حولي.
أمي الطيّبة كانت تساعد الجيران في تجهيز الوليمة، وأبي أيضاً كان مشغولاً بالمساعدة. إخوتي، بطبيعة الأطفال المشاغبين، كانوا يقتربون من سريري؛ تارةً يحركونه، وتارةً يركلونه كأنهم يركلون كرة!
لا بأس، كانت مجرد حركات أطفال… أو هكذا كنت أظن.
وفجأةً، اقترح أحدهم أن يحضروا بعض الحطب من العرس، فحينها كانت المطابخ تقام في الهواء الطلق — ليس مثل اليوم مع البوفيهات الفخمة.
جلب الأطفال الحطب، بل إن أحدهم — لا أعرف مَن إلى يومنا هذا — أتى بحطب مشتعل!
رماه وسط الأثاث بالغرفة… وبدأت النيران تشتعل رويدًا رويدًا.
شعر إخوتي بالخوف، فهربوا وتركوا خلفهم الطفل الصغير — أنا — أواجه النار وحدي!
كبر اللهيب شيئًا فشيئًا، وبدأت نساء القرية يهرعن نحو المنزل المحترق. وعندما رأوا الصبية يقفون خارج الدار، اطمأنوا أن الجميع بخير… أو هكذا ظنوا.
حين وصلت أمي إلى البيت، صاحت بفزع:
“ولدي مبارك! وين ولدي مبارك؟!”
وهنا، دعوني أخبركم: “مبارك” هو اسمي الأصلي — مبارك المطاعني.
دون أن تتردّد لحظة، سكبت أمي الماء على جسدها، واقتحمت البيت المشتعل بالنار. دخلت وهي تصارع ألسنة اللهب، وأخرجتني بين ذراعيها.
وبعد دقائق معدودة، سقط سقف الغرفة المحترقة!
لقد أنقذتني أمي من موتٍ محقق…
وامتلأت القرية بالفرح والتهليل لنجاتي، وراحوا يقولون:
“فآل مبارك!” — أي نجا مبارك، بلهجتنا البدوية.
ومع مرور الأيام، تحوّل اسمي بين الناس من مبارك إلى فائل، بمعنى “الناجي”،
وهكذا، الكل يناديني به
وحتى هذه اللحظة ….لا اعرف من هو ذاك الوفد الصغير الذي القى الحطب المشتعل في الغرفة !؟
ربما سيظل هذا سرا أبديا من اسرار طفولتي الشقية.
الخاتمة
وهكذا ، انتهت أولى صفحات حكايتي مع الحياة… حكاية كتبتها نارٌ كادت أن تخطفني من حضن الدنيا، فانتشلتني يد أمي الحنون، لتمنحني فرصة ثانية لأن أعيش، وأحلم، وأكون.
كبرتُ، وكبرت معي قصص كثيرة، بعضها مضحك، وبعضها عجيب، وبعضها مؤلم كلسعة نار قديمة لم تنطفئ تماماً في القلب.
لكن مهما كبرت، ومهما تبدلت الأحوال، سيظل ذلك الطفل الشقي ساكنًا في أعماقي، يطلّ عليّ بين الحين والآخر بابتسامة ساخرة، وكأنه يذكرني:
أن لا شيء أجمل من بساطة الطفولة، ولا أقوى من حب أم، ولا أعمق من ذكريات نُسجت بين لهو وخطر وبراءة.
هذه المذكرات، ما هي إلا بداية رحلة…
رحلة ولدٍ شقي، ما زالت الأيام تعده بمغامرات لم تُكتب بعد.
إلى لقاءٍ آخر…
حيث الحكايات لا تنتهي.
فائل المطاعني
الولد الشقي