” أغنية الحياة ” ضمن المجموعة القصصية ” قلعة المتاهات”
القاص المغربي "سعيد رضواني": قراءة في القصة القصيرة

✍️ غيثه لبلول :
أغنية الحياة،من المجموعة القصصية “قلعة المتاهات” للقاص المغربي سعيد رضواني : ” يغنيها متناغما مع ما قبلها وأسمعها مترقبا مع ما بعدها . يغنيها بصوت شجي يتماهى مع عذوبة اللازمة التي ترددها فرقته ، وأسمعها بإصغاء يتماهى مع اندماجه الكلي مع الإيقاع الذي يعزفه زملاؤه الأربعة ، بينما عيناي تتأملان عينيه الشاردتين اللتين تطلان من وراء خصلات شعره المبروم .
يتراجع قليلا ليفسح المجال لزملائه كي يرددوا لازمة الأغنية التي تصرخ في وجه العالم .
وعلى إيقاع اللازمة يتمايل جسدي الطفولي ، مثلما سيتمايل، فيما بعد، عشرات المرات ، بين جمهور مبهور بالأداء الرائع لهذه الفرقة التي تعزف على أوثار القلوب .
أحدق في الخشبة متأملا ما فيها وما يبرز من جدرانها ، أرنو إلى القاعة الحديثة بما فيها من زخارف تطل من السقف ، ومنحوتات تطل من الجدران، أرنو إلى سحنات أعضاء الفرقة الغارقة في الغموض ، وإلى خصلات شعرهم المبرومة وإلى نظراتهم الشاردة ، فأتمنى لو يتقدم بي الزمن وتتاح لي فرصة الصراخ في وجه العالم.
تخفت الأصوات التي تردد اللازمة، ويتصاعد صوته الفخم الرخيم فيشدني وأشرع عيني كأنهما أذنان، تهوى بي كلماته من أعلى الأغنية إلى سطح الأرض، فأرى ما أسمعه كأن للأصوات ألوانا. أراه يتسلق الجبال بعينيه، وينحدر مع الشلالات بأذنيه ويستنشق هواء الحقول برئتيه. أرى انفصاله عن الفضاء الذي يغني فيه فأنفصل معه، أرى تماهيه مع السهول التي يناجيها فأتماهى معها مثله .تداعب الموسيقى أزهار الحقول، وتداعب أنامله سنابل القمح وشقائق النعمان، وبين المسارب يندس بجسده النحيل ويمشي بقدميه الرشيقتين، فأمشي معه إلى الجهة التي تقصدها قدماه.
نمضي معا في الممرات التي يناجيها بصوته الرخيم ، نمضي معا، هو بجسده الهرم وأنا بجسدي الرجولي القوي، نمضي بين الممرات والسهول والوديان وشعب الجبال ، وفي أذني تتردد اللازمة التي ترددها فرقته، اللازمة التي بدت بين الحقول والوديان كأنها تخبو في الفن وتتوهج في الواقع .
نمضي ونمضي تقودنا الموسيقى إلى تلك الجهة التي تقصدها قدماه، وعند التخوم التي تفصل الواقع عن الفن، تتوقف الأقدام وتتقدم الأعين مسحورة بلوحة منتصبة على حاملها تنتظر آخر لمسات مبدعها، المنغمس في تشكيل قاعة موسيقى تتوسط لوحته التي تتوسط الحقول.
يرسمها متناغما مع ما حولها من ألوان، وأراها منسجمة مع ما في داخلي من أنغام، يرسمها بألوان فاتحة تتماهى مع البساتين والحقول والوديان، وأراها بانتباه يتماهى مع انغماسه الكلي في الألوان التي تدبجها يداه، بينما أذناه غافلتان عما حوله تصغيان إلى أنغام خفية تنبعث من اللوحة.
تشدني موسيقى ألوانه فأركز بأذني كأنهما عيناي ، تهوي بي ألوانه من أعلى اللوحة إلى قاعة موسيقى فأسمع ما أراه كأن للألوان رنات، أراه يتسلق السلم الموسيقي بأذنيه وينحدر مع إيقاع النغمات برأسه، ويمتص بجسده اهتزاز النغمات. أرى انفصاله عن الفضاء الذي يرسم فيه فأنفصل معه. أرى حلوله في فضاء قاعة الموسيقى التي يرسمها فأحل فيها معه.
تراقص الألوان الراقصين في قاعة الموسيقى، وتداعب أنامله أوثار القيثارة وصفحة الدف وجلد الطبال والمزهر . يصغي إلى الأنغام التي تنبثق من ألوان لوحته، فأصغي معه ، بوجه سمعه إلى صوت بعيد في عالم أبعد، فأوجه معه سمعي إلى ذلك العالم الذي تصغي له أذنه ، ونرحل معا إليه، إلى تلك القاعة التي رسمها بألوانه الزاهية؛ نرحل معا ، هو بجسده اليافع القوي وأنا بجسدي الهرم، نمر بين صفوف الكراسي وأمام عيني تتراقص ألوان قاعة الموسيقى التي رسمتها يداه .
أجلس في مقعدي المهترئ وأحدق في خشبة القاعة متأملاً مافيها وما على جدرانها. طويلا أرنو إلى القاعة العتيقة بما فيها من زخارف متآكلة…طويلا أرنو إلى الجدران الشاحبة وما يطل منها من منحوتات متكسرة. طويلا أرنو إلى سحنات أعضاء الفرقة المفعمين بالحياة ، أتأمل نظراتهم المشرقة وقصات شعرهم فأترحم على أسلافهم الذين رحلوا تاركين خصلات شعرهم المبروم عالقة في ذاكرتي…مخلفبن صدى أنغامهم يتردد في أذني . طويلا أرنو إلي رجلي النحيفتين وإلى يديّ المتغضنتين المرتعشتين فأتمنى لو يعود بي الزمن إلى الوراء،ويعود الجسد قويا كما كان،فتتاح لي فرصة الصراخ في وجه العالم.
تذكري هذا آلمني بأمنية راودتني ذات طفولة، بأمنية انبثقت وترعرعت، وظلت تنمو إلى أن شاخت بين أطراف فاصل زمني شاسع مثلما شاخ هذا الجسد الذي لم يصرخ قط في وجه العالم، بل ظل فقط، على امتداد زمن طويل يردد لازمة الأغنية التي تتوهج في الفن وتخبو في الواقع.”
من خلال قراءة تأملية لهذه القصة ،
أحسها لوحة فنية ، تتحدى الجنس الأدبي ،وتتجاوز السرد القصصي في صيغته التقليدية القائمة على تسلسل الأحداث وتراتب الموضوعات ، إلى خلق علاقات توثر وتداخل موظفا التعبير المجازي بكل صوره :
التقابل ، التعارض ، التناقض …ليس لخلق الالتباس او الغموض ،بل للتأكيد على ” “التماهي “بين الأشياء والموضوعات .
” أغنية الحياة ” ليست مجرد قصة ، بل هي فسحة فنية تمنح للقارئ فرصة التماهي مع السارد ليتقاسم معه حالة الاستمتاع بالمنتوج الفني في لحظتين أساسيتين ( النغمة الموسيقية من جهة ، واللوحة التشكيلية من جهة ثانية ، وتظل الطبيعة العنصر اللاحم بينهما) .
يبدأ السرد بفعل التناغم ، ويبقى الفاعل غائبا رغم التركيز على تفاعله مع السارد
” يغنيها متناغما مع ما قبلها وأسمعها مترقبا ما بعدها “
، بداية تدفع بك لعالم المجهول ( من يغني وما ذا يغني ؟؟ ) ، هذا من بداهة السرد في عالم سعيد الرضواني ،: فهو لايهتم بالشخصيات بقدر ما يركز على العلاقات التي تقوم على مبدأ التفاعل والتماهي ، فيلغي كل صور التقابل والتضاد بين الأشياء والموضوعات ( يغنيها / اسمعها —قبلها / بعدها ) ؛ هذه الصورة تتكرر في كل لحظات السرد : “اللازمة …تخبو في الفن وتتوهج في الواقع ” ص88
“لازمة الأغنية التي تتوهج في الفن وتخبو في الواقع ” ص90
إن التقابل بين المفاهيم ،والتضاد بين الصياغات مقصود ، لان الهدف منه واحد ، وهو تحقيق التماهي وخلق التداخل في إطار حكي يتجاوز معطيات الواقع الجاهز إلى بناء واقع مخالف ، واقع متعالي يتوافق مع مبدأ السارد في تحقيق غايته الفنية وهي الابداع المختلف ، الابداع المتميز .
” أغنية الحياة ” ثلاث صفحات من السرد ،دون أن يكون سردا فعليا ، حيث تغيب الشخصيات لتجعل من التماهي الشخصية المحورية،التماهي هو الفعل ، هو الانفعال مع الذات ومع الموضوع، يعبر من خلاله السارد عن ذاته كحالة وكنمودج للتماهي ،يتعايش مع الوضع ،ليس كحدث ولكن كحالة نفسية وكجوهر للذات الانسانية .
“أغنية الحياة ” أنشودة كيان إنساني متكامل يخضع لمؤثرات فنية تتفاعل فيها العلاقة بين المعطى الخارجي في الواقع والإحساس الذاتي ، لتعكس جوهر الانسان أي عمقه الروحي ، كجوارح ومشاعر تتفاعل مع مايستقبل من مؤثرات وليس كذات فاعلة مستقلة .
إذا كان فعل التماهي هو الشخصية الأساسية في القصة ، فإن بطلها هو الموضوع الفني ، باعتباره ليس مجرد منتوج عملي خالص ، بل هو خاصية فنية تتماهى مع الذات الانسانية :
” أرى ما أسمع ،كأن للأصوات ألوانا ” …ص 87
” تشدني موسيقى ألوانه ،فأركز بأذني كأنهما عينان ،تهوي في ألوانه من أعلى اللوحة إلى قاعة الموسيقى ،فأسمع ما أراه ،كأن للألوان رنات .”…ص 88
أراه يتسلق السلم الموسيقي بأذنيه ،وينحدر مع إيقاع النغمات برأسه . “….ص 89 .
في هذه التعابير ،لا نلمس سردا أدبيا ، بقدر ما نجد انفسنا أمام تحليل فني إبداعي ،يركز على الانفعالات والمشاعر حيث الاستيهامات الفنية تتفاعل في تأثيرها مع جوهر الكيان الانساني وتتجاوز المعطى المادي في الواقع : ” نمضي ونمضي ،تقودنا الموسيقى الى تلك الجهة التي تقودها قدماه ،وعند التخوم التي تفصل الواقع عن الفن ،تتوقف الأقدام وتتقدم الأعين مسحورة ….” ص88
ويستمر الوصف في نسيج ابداعي تتماهى من خلاله المؤثرات الفنية ( اللوحة والانغام الموسيقية ) ، لتنعكس في مخيلة “السارد ” وتكشف عن تأثره بواقع فني يتعالى عن الواقع المادي ،لينقله من موقع “السارد : القاص” الى موقع المنفعل “المبدع” ،فيضعنا أمام لوحة داخل لوحة :
” يرسمها متناغما مع ما حولها من ألوان ، وأراها منسجمة مع ما في داخلي من أنغام….” (ص 88).
انها الصورة المثلى للتماهي ،تماهي الألوان والأنغام ،تماهي الصورة والإحساس ، تماهي الوصف والمشاعر…..
“أغنية الحياة ” دعوة للتأمل ،دعوة الى الإلتحام ، قراءة تعكس الدلالة الفعلية للتماهي : وانت تقرأ أو بالأحرى “تتأمل ” النص تلقي بنفسك في وضع تماهي ، تعيش حالة خاصة تجعلك جزءا من المقروء ، من الصعب جدا تجاوزها …، لأن ” السارد ” هو بذاته في حالة متعالية ،عن الواقع المادي المعطى .
“أغنية آلحياة ” : حكي استثناء ، انه تضمين تأمل فني في إطار سرد قصصي، انه متعة مزدوجة ، إن لم تكن متعددة :
– متعة فكرية ( القراءة ) ، ومتعة فنية ، متعة التلقي ، متعة الإدراك ، متعة الوعي بالقيم المثلى، قيم التجانس، قيم التماهي من حيث هو تأثير وتأثر يخلق التفاعل والانسجام :
*