سعيد رضواني: رمزية الذاكرة والزمن في ‘البيت المهجور’

بقلم : نورالدين طاهري
“البيت المهجور”، القصة الأخيرة من المجموعة القصصية “مرايا” للقاص والروائي المغربي الأستاذ سعيد رضواني، تمثل نصا أدبيا بالغ العمق في استحضار الذاكرة وصراعها مع الواقع، وفي رسم معالم الحنين المؤلم لماضٍ رحل، غير أنّه يظل راسخا في وعي بطلها، حاضرا بكل تفاصيله المؤثرة.
في مستهل القصة، يبدو الحنين ملمحا أساسيا يسيطر على شخصية البطل، حينما يعود إلى “البيت المهجور” الذي كان يوما وطنا وملاذا آمنا. إنه حنين إلى البيت وما يمثله من استقرار وحياة كانت مكتملة ذات يوم، لكن الزمن أضفى عليها قسوة الافتقاد والفراغ. حين يقول البطل إنه “يفقد تماسُكه”، يظهر مدى الضعف الذي يعتريه، فهو يتوكأ على عكاز جسدٍ مهترئ ينهكه الحنين، وقد صار عاجزا عن مجابهة الحياة بلا ذاكرة تأخذه إلى الماضي.
يمزج النص بين المراحل العمرية المختلفة للبطل، وكأنّنا نعيش ثلاث أزمنة متمركزة حول البيت المهجور، مستحضرين الفروق الحسية والنفسية بين الطفولة والشباب والشيخوخة. هذه الأزمنة تترابط عبر أدوات رمزية قوية كالعكاز والسيجارة وعش السنونو. يحمل العكاز في بداية النص دلالة مزدوجة بين الضعف الجسدي والذاكرة المترهلة، ويتحول بعدها في مشهد الطفولة إلى عصا مستقيمة، حيث البطل يتلاعب بها في أريحية وبراءة؛ تتحول العصا هنا إلى أداة تهشّ الدجاجات والغربان، رمزا لانطلاق حرية الطفولة وإحساسها المتجدد بالحياة. في النهاية، يعود العكاز ليحمل معنى الشيخوخة والإرهاق، فقد أصبح معقوفا، رمزا لمسيرة الحياة التي لم تستطع التمدد أكثر وانكفأت على نفسها.
يمثل الحوش بؤرة الذاكرة، وهو يحتوي على عناصر الحياة في المنزل القديم، فكل نظرة يلقيها البطل على الحوش تكشف عن طبقات الذاكرة المختزنة، إذ يسقط بصره على نملة تحمل حبة قمح باتجاه الجدار، بينما تلفت أنظاره أفراخ السنونو من العش الطيني. النملة في هذه الإشارة تعكس الكفاح المستمر رغم الضآلة، بينما أفراخ السنونو تجسد بُعدا أسمى من مجرد الطفولة أو البدايات، فوجودها يعبر عن دورة حياة تبدأ وتنتهي، لكنها تظل مستمرة ومتجددة. يعمق الكاتب هنا شعورنا بتلازم الفرح والتوجس، بين الحاضر الذي يواجه فيه بطله الزمن بكل ثقله، وبين الماضي الذي يظل هادئا ومألوفا برغم رحيله.
أفعال البطل تجاه هذه الأشياء الحية والجماد في البيت تعبر عن حالاته النفسية الداخلية؛ فتفاعله مع الكلب والجرو، ثم الركض الطفولي في المنزل والتمرد، كل ذلك يمثل تعبيرا عن حرية متضاربة بين صدى الطفولة وشبح الشيخوخة. حين يكسر الأثاث، نجد تعبيرا عن الرغبة في كسر قيد الماضي، لكن سرعان ما يتلقى صفعة من أبيه تعيده إلى حدود الواقع، وكأن طيش الطفولة وحرية الشباب يعيدان تذكيره بسلطة الحياة.
تظهر السيجارة كعنصر رمزي آخر متكرر عبر المراحل، تبدأ في مشهد الشيخوخة كوسيلة لتفريغ القنوط والتذمر، بينما في مرحلة الشباب تشعل نار الحيرة والندم؛ فهي تبعث إحساسا بالتناقض بين الثبات والرغبة في التحرر، وبين العيش المكبل والخروج إلى الهواء الطلق. في مرحلة الطفولة، كانت العصا ملوحة تهشّ بها الكائنات الحية حول البيت، أما في نهاية القصة، تتحول إلى معكاز يرتكز عليه، يشبه نفسه المنحنية المهترئة.
النص ينقل مشاعر متصاعدة من الوحدة، متخللا إياها بتفاصيل يومية تعمق بؤس الزمن الذي مر. حينما ينظر البطل حوله فلا يرى إلا الفراغ، فإنما يعكس غياب الحياة التي تركها وراءه، وأصبح يواجه بيته القديم بآثار التلاشي والانقراض. الرمزية البديعة تتجلى في نسيج العنكبوت داخل الخابية، الذي يعيق رؤية العمق الداخلي ويمنع البطل من رؤية ذاته، حيث يشبه الزمن هنا عنكبوتا قاسيا يحيك حوله الأحداث بلا رحمة، ليتركه سجين الماضي، بعيدا عن الفهم والبوح.
المشهد الأخير يضعنا في مواجهة صامتة بين البطل وذاكرته المثقلة، وأمام عالم يحاكي الصمت الذي يعبر به البطل عما اختفى وفقده. إن صرير باب الحوش، وغياب النمل من بصره، وتحول صورته في الماء إلى صورة مكسرة، تمثل حالة العمى التي يحياها من كان يوما يتأمل صورته بفرح ورضا. لا تقتصر الوحدة هنا على غياب الأشخاص، بل هي حالة مستمرة من البعد عن الذات؛ وكأن البيت المهجور ذاته بات صورة مكثفة للذاكرة التي أُهملت، رغم أنها تحتوي على تفاصيله كلها، منتظرة في زواياه الصغيرة دفء الحياة مجددا.
إن القصة تمثل رحلة داخل الذات المتصدعة، حيث يستعرض الكاتب رحلة من الطفولة إلى الشيخوخة، ليكشف عن التداخل المعقد بين الذكريات والواقع، بين الحنين والإحباط، بين اللهو والرتابة. عبر الرموز والتكرار البديع في النص، يظهر أن الماضي، مهما تلاشى ظاهريا، يظل مرتبطا بصور حياتية لا يزول تأثيرها.
قصة “البيت المهجور” تعتمد على لغة شاعرية ومكثفة، تمزج بين الوصف الدقيق والتعبير الرمزي، بحيث تمنح كل عنصر ومشهد في القصة طبقة جديدة من المعاني. القاص سعيد رضواني يستخدم لغة تعبيرية تختزن تفاصيل دقيقة، تجعل من الأشياء اليومية – كالعكاز والسيجارة والنملة – رموزا عميقة تربط بين الزمن والمكان والنفس البشرية. هذه اللغة تمتاز بنبرتها الحزينة والواضحة في أسلوبها، ويتخللها بعض التكرار الذي يوحي باستمرار الأفكار العالقة والذاكرة المسيطرة.
في تعبيره عن الحنين، تأتي اللغة مفعمة بالتشبيهات والاستعارات، إذ تُصور المنزل وكأنه كائن حي، له تاريخ وعاطفة وذاكرة، وكأنّه بيت يمتد جذوره في الزمن بقدر ما يمتدّ في قلب البطل. تُعتمد اللغة هنا على وصف الأفعال والأشياء بحسية متناهية، مما يجعل القارئ يستشعر معاناة البطل وتفاعله مع عالمه الداخلي والخارجي.
الكاتب يعتمد على التراكيب الطويلة أحيانا، التي تتسم بنوع من السلاسة والاسترسال، مما يضفي عمقا على المشاهد، ويعكس تدفق الذاكرة وصعوبة السيطرة عليها. تتعمد القصة أيضا كسر الجمل والانتقال المفاجئ في بعض المشاهد، كدلالة على القلق والحيرة المتصلة في نفس البطل. استخدام اللغة في القصة يضفي بُعدا من التردد والتوتر الهادئ، خاصة مع توظيف الكلمات التي تعكس الوحدة والتلاشي والقدم، ما يعمق الإحساس بالعجز عن العودة إلى الماضي أو تجاوزه.
بذلك، تبرز لغة القصة كأداة رئيسية لنقل الصراع الداخلي للبطل، فهي لغة تغوص في عمق الذكريات دون أن تفقد وضوحها، تلتقط أدق التفاصيل، وتخلق عالما مليئا بالإشارات النفسية.
أسلوب سعيد رضواني في “البيت المهجور” يميل إلى السرد التأملي المتداخل بين الذات والزمان والمكان. يعتمد الكاتب على أسلوب الاسترجاع المتكرر للماضي، فيجعل القارئ يعيش تجربة الذاكرة، إذ لا تكتمل صورة الحدث إلا عبر مشاهد متتالية ومتكررة، وكأنها شذرات زمنية. هذا الأسلوب المتكرر والتراكمي يُستخدم لإبراز تداخل الزمنين الحاضر والماضي في نفسية البطل، مما يعكس استحالة الفصل بين تجربته الراهنة وذكرياته التي تجسد أساس هويته.
يتخذ الكاتب أسلوب الرمز والإيحاء، فهو لا يصرح بمعاني النص بشكل مباشر، بل يعتمد على تجسيدها عبر الرموز كالعكاز، السيجارة، النملة، والخابية، مما يدفع القارئ إلى الغوص في دلالاتها وتأمل أبعادها. هذا الأسلوب الرمزي يجعل القصة متعددة الأوجه، ويمكن تأويلها وفقا للخبرات الشخصية للقارئ.
في بعض الأحيان، يتبع أسلوب التناقض الداخلي، ويقدم البطل مشاعره المتضاربة، كالحنين الممتزج بالألم، والرغبة التي تعاكسها القيود، ما يبرز حالة الصراع الداخلي. كما يستخدم الكاتب الوصف الحسي الشاعري، ليخلق لغة شعرية مليئة بالتشبيهات التي تعبر عن الأحاسيس بدقة، وتعطي للأشياء بعدا عاطفيا.
بذلك، يجمع الأسلوب بين البساطة في الظاهر والعمق في الباطن، مما يحقق توازنا بين السرد الواقعي والتعبير الرمزي، ويغذي النص بجماليات تعكس قدرته على التأمل والانغماس في لحظات الحياة.
بهذا التحليل، نصل إلى فهم عميق لما تحمله قصة “البيت المهجور” من دلالات تتجاوز السرد البسيط، لتغوص في عمق الذات الإنسانية وعلاقتها بالزمن والذكريات. تظهر القصة كمرآة عاكسة للتجربة البشرية المتراكمة، حيث يصبح الماضي شريكا في تشكيل الحاضر، ويمثل البيت المهجور رمزا للمأوى الداخلي، الذي وإن بدا خاليا من الحياة، يظل ممتلئا بظلال التجارب والأحلام المكسورة والأحاسيس المتضاربة. يعتمد سعيد رضواني على أسلوب سردي متأمل، تتخلله الصور الرمزية، ما يجعل النص ملهما للقارئ ويحفزه على استكشاف أبعاد الذات والعالم.
وبهذا، يمكن القول أن “البيت المهجور” ليست مجرد قصة قصيرة، بل هي رحلة فلسفية عبر مسار الزمن، تقدم فيها لغة الكاتب وأسلوبه الحسي أدوات تأملية تساعد على فهم أعمق للحنين، للاغتراب، ولحقيقة الإنسان المعقدة، لتبقى القصة مفتوحة للتأويل ومستودعا للتجارب الإنسانية بكل أبعادها.