رمضان وصل طقوس وفانوس

✍️ سارة طالب السهيل :

لشهر الصوم مذاقات قلما نجدها في أي شهر من شهور العام في مختلف الدول العربية والإسلامية، فهو له مذاقات روحية خاصة جدا بفعل أنه شهر تغلق فيه أبواب جهنم، وتفتح فيه أبواب الجنان، وبالتالي فان المسلم نفسه تغادر فجورها، وتلهم تقواها فتقبل على رب البرية وطاعته واستثمار الطاقات النورانية في هذا الشهر بممارسة الفروض الدينية والسنن المحمدية من الصلاة والصيام والزكاة والصدقة وقيام الليل وقراءة القرآن الكريم، وصلة الأرحام والعطف على الفقراء والمساكين والبذل والعطاء في مختلف أشكال العطاء الإنساني البديع.
يتوحد المسلمون في رمضان على قلب رجل واحد في وحدة إنسانية فريدة من نوعها تترجمها لحظة إفطار الصائمين في وقت واحد والصلاة الجماعية في الفروض والسنن في صلاة التراويح ومجالس تلاوة القرآن بالمساجد، والحرص على زيارة المرضى في المشافي وزيارة دور الأيتام والمسنين جبرا للخواطر والنفوس وادخال السرور والبهجة من قناديل وزينات وأنوار المصابيح، وإعداد موائد الإفطار للفقراء ولمن انقطع عنهم الطريق، أو تأخروا في الوصول إلى بيوتهم وقت الإفطار، وإعداد طعام مخصوص للشهر الكريم خاصة الحلوى والمشروبات.
فالزينات والأنوار تشع في المساجد، وفي الشوارع وأيضا البيوت احتفاء بالشهر الكريم، إلى جانب ازدحام الأسواق بكافة أنواع الطعام والملابس اللازمة للعيد والعطور والبخور وألعاب الأطفال المختلفة.

وقد تطور الاحتفاء برمضان والاستعداد له منذ عهد نبينا محمد صلى الله عليه، وسلم والصحابة وصولا لزماننا المعاصر. في العصر النبوي لم يكن لشهر رمضان مظاهر احتفالية، وكانت طقوسه كلها منصبة على العبادة بكل أشكالها وفعل مختلف الطاعات والقربات لرب العالمين، ولم تكن مائدة الإفطار الرمضانية معروفة، وإن كان بعض المؤرخين تثبت أن النبي صلى الله عليه، وسلم كان أول من أقام مائدة إفطار للوفد الذي جاء إليه من الطائف في أثناء وجوده بالمدينة، وكان النبي يرسل الإفطار والسحور مع بلال بن رباح.
واقتدى الخليفة عمر بن الخطاب بسنة النبي، فأقام دارا كاملا للضيافة يفطر فيها الصائمون، كما كان الخليفة عمر أول من جمع الناس على صلاة التراويح خلف إمام واحد في السنة الثانية من خلافته، كما كان سببا في إضاءة مسجد رسول الله بالقناديل، وهو ما جعل الإمام علي بن أبي طالب يدعو له، قائلا “نوَّر الله لعمر بن الخطاب قبرَه كما نوَّر مساجد الله تعالى بالقرآن”.

أما الأمويون اشتهروا بالحرص على تزيين المساجد بشكل مترف، ومن ضمنها القناديل، حيث كان الجامع الأموي بدمشق يحتوي على ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل، كما اشتهر شهر الصيام في الشام منذ العهد الأموي بمشروب قمر الدين وحلوى الكنافة.

أما المسجد الأقصى، كما ذكر شمس الدين السيوطي، كان فيه من السلاسل للقناديل أربعمائة سلسلة إلا خمس عشرة، منها مئتا سلسلة وثلاثون سلسلة في المسجد والباقي في قبة الصخرة وذرْعُ السلاسل أربعة آلاف ذراع، ووزْنها ثلاثة وأربعون ألف رطل، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل، وكان يُسرج فيه مع القناديل ألفا شمعة في ليال الجمع، وفي ليلة نصف رجب وشعبان ورمضان، وفي ليلتيْ العيدين.
وتُوُسِّع في تعليق القناديل بالمساجد وتزيينها في الدولة العباسية وبرعاية كبار رجال الدولة كما زاد في عهد العباسيين الاهتمام بالاحتفال بالشهر الرمضاني، خاصة الحرم المكي والمسجد النبوي، وفي عهد الخليفة هارون الرشيد الذي اشتهر بإقامة الولائم في قصره، وفي الحدائق العامة للفقراء وعامة الناس ببذخ كبير.

والدولة الفاطمية ومصر الفاطمية كانت أكثر الدول توسعا في الأنوار الرمضانية خاصة بعد صناعة الفوانيس إلى جانب القناديل. كما كان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، أول من وضع تقاليد المائدة في عهده بمفهومها المعاصر، وكان يقيم ولائم الإفطار في قصره لعلية القوم، ومثلها في المساجد والأحياء الشعبية لإطعام الفقراء والمهاجرين.
وكان الحاكم بأمر الله يأمر جنوده بالمرور على المنازل ودق الأبواب لإيقاظ المسلمين للسحور، ثم خُصص رجل للقيام بهذه المهمة باستخدام عصا يدق بها أبواب البيوت مناديا يا أهل الله قوموا تسحروا.

وظيفة القناديل

كانت للقناديل والفوانيس وظائف عديدة أهمها أنها علامة على بداية شهر الصيام، حيث كانت الفوانيس تعلق في أعلى مآذن المساجد لإعلام الصائمين بثبوت هلال رمضان، بجانب إضاءة المساجد للمصلين،
توقيت الفطور والسحور كانت القناديل والفوانيس تعلق في أعلى مآذن المساجد لإعلام الصائمين بثبوت هلال رمضان ومواعيد السحور.

واشتهر العهد الأيوبي، بالمُحتَسب، وهو شخص يمر على الأسواق لمراقبة سلع التجار يمر للتأكد من وفرة وجودة السلع ونظافة البائعين. في عهد الملك الكامل كانت تغلق الخمّارات واعتقال البغايَا، وإغلاق المطاعم، وقيل إنه كان ينزل بنفسه في أول أيام رمضان، فإذا صادَف مفطرًا أمر بضربه.

طقوس متباينة

ارتبط شهر رمضان بطقوس عديدة بعضها متوارث في عالمنا العربي وبعضه مستحدث مثل الفوانيس التي تطورت صناعتها من فانوس معدني يضاء بالشموع إلى فوانيس تضاء بلمبة على البطارية، بعضها يحتوي على موسيقى أو أغاني رمضانية، وتتعد أشكاله وألوانه؟

كما ارتبط رمضان بالمسحراتي الذي يوقظ الناس للسحور ولصلاة الفجر، بجانبه اشتهر هذا الشهر بحلوى القطايف والكنافة التي يتفنن عالمنا العربي بصناعتها بطرق مختلفة.
ودفعت شهرة الكنافة والقطائف جلال الدين السيوطي إلى أن ألف فيما بعد كتابا جمع فيه كل ما قيل عنهما أسماه “منهل اللطائف في الكنافة والقطائف”.

خصوصيات

ورغم تشابه الطقوس الرمضانية في معظم بلادنا العربية والإسلامية، غير أن كل بلد له خصوصية يتفرد بها عن باقي الدول الأخرى،
ومنها المدن السورية التي تزين شوارعها وأبوابها وحوانيتها بالآيات القرآنية والأنوار الملونة، وموائد الإفطار في سوريا تعج بالحساء والفتوش، وفتة الحمص، والبابا غنوج، ومختلف أنواع الكبب والملوخية والمحاشي، وبعض الحلويات كالمعمول والوربات والكعك والمهلبية والكنافة، والمشروبات مثل قمر الدين والتمر الهندي وعرق السوس.
في سوريا يُطلق على تقليد تبادل الأطعمة بين الجيران قبل أذان المغرب “السكبة”

ويستعد أهل فلسطين قبل شهر رمضان بأيام بتجهيز قليلة جرات الفخار، ويصنعون الجبنة والشعيرية بأيديهم، ويقدمون للفقراء ما يحتاجون من طحين وعدس وفواكه وخضار، ويتناولون الإفطار والسحور بشكل جماعي،

في المغرب، يحتفل المغاربة بقدوم رمضان بضرب النفير مرات عديدة كإشارة إلى بداية الصيام، ويتبادلون التهاني بعبارة “عواشر مبروكة” التي تعني “أيام مباركة”.

في السودان، بعد استطلاع هلال رمضان، يُنظم الأهالي ما يُعرف بـ”الزفة”، حيث يشارك رجال الشرطة في تنظيم مسيرة كبيرة تتقدمها الجوقة الموسيقية العسكرية، وينضم إليها موكب من رجال الطرق الصوفية السودانية.

أما في الأردن، فيجب علينا تناول أي وجبة بيضاء في أول يوم رمضان ليكون شهرا أبيضا مباركا، ويجب أن تجتمع العائلة في بيت الجد والجدة.
كما أن مساجد الأردن عامرة بالمصلين طوال العام، إلا أنه في شهر رمضان تحيي المساجدُ ليلاً بصلاة التراويح، وخاصة في المسجد الحسيني وتتحول الأسواقُ القديمة في وسط البلد والأسواق كسوق البخارية إلى وجهةٍ للعائلات لشراء الحلويات والمكسرات. وكنافة حبيبة ومطعم هاشم وأيضا تُخصص النسوةُ أيام الشهر الأخيرة لصنع كعك العيد، بينما يهرع الرجالُ لشراء الملابس الجديدة استعداداً للعيد. تظل القهوة العربية رفيقةَ السهرات في الدواوين، بالسهرات الرمضانية حيث تُروى الحكايات، وتُعاد ذكريات الماضي.
وقد كنت في طفولتي انتظر أذان المغرب ونحن مجتمعون حول التلفاز بالقرب من المائدة الشبه جاهزة، وأتابع فوازير رمضان والمسابقات الرمضانية ومسلسلات زهير النوباني وعبير عيسى وقمر الصفدي وغيرهم من المبدعين الأردنيين.

في العراق

رغم التطور الإعلامي بمعرفة هلال رمضان عبر التلفاز أو الراديو فان العراقيين لا يزالون يحتفظون بالكثير من طقوسهم الرمضانية مثل إطلاق العيارات النارية عند رؤية الهلال، كما يحتفظون بتراث مدفع الإفطار.
ويحتفظ أهل بغداد بتقاليد موروثة أهمها “المسحرجي” أي المسحراتي، و”لعبة المحيبس” تعتمد هذه اللعبة على وضع الخاتم في يد أحد اللاعبين، والفريق المقابل يبحث بمهارته وخبرته عن مكان الخاتم، ويدفع الخاسر ثمن الزلابية التي توزع على أعضاء الفريقين والمتفرجين.
أما لعبة الماجينه، فيمارسها الأطفال، حيث يدورون على البيوت ليمنحهم أصحابها بعض النقود والحلويات، وفي نهاية الجولة يقوم زعيم الفريق بتوزيع المال المتجمّع على مجموعته، أو يشتري لهم بثمنه الحلويات، لكن هذا الطقس الطفولي اختفى من بغداد.
وبينما تزيين الشوارع تُتَبَادَل الزيارات ما بعد الإفطار، يُتَبَادَل الطعام ما بين الجيران والموائد المجانية، فقد اختفت طقوس رمضانية شهيرة مثل القصخون وهو الحكواتي الذي يجلس في المقهى لسرد القصص. الترابط الأسري في بغداد ما زال لم يخترق من المتآمرين لتفكيك الأسر العربية، ولا أدري كم رمضان سيأتي وبغداد تقاوم هذه الحروب، وتنجرف مع التيار؟ أتمنى أن لا يحدث أبدا.

أما شهر رمضان في مصر يكاد يُسْتَعَدّ له بدءا من شهر رجب وشعبان بالصيام، وتجهيز احتياجات رمضان الغذائية، وفي نهاية شهر شعبان الأسر زينة رمضان من فوانيس ومفارش وأغطية جديدة، بينما يتبارى الصبية بشراء الزينات لتزيين شوارعهم وإبرام الاتفاقات على الدورات الرمضانية عقب صلاة التراويح.
وقد كنت دائما أجول في شوارع السيدة زينب قبيل قدوم الشهر الكريم، واشترى زينة رمضان.
فشوارع مصر كلها فقيرها وغنيها تتزين بزينة رمضان بجانب زينة المساجد، وتملأ موائد الإفطار معظم شوارع مصر خاصة في العاصمة، بينما تصبح مزارات آل البيت مقصدا أساسيا لصلاة التراويح، والقاهرة الفاطمية بالذات تزدان بروحانيات الشهر الكريم بمساجدها العتيقة التي تعود إلى ألف سنة، وتملأها محال بيع الفوانيس، وكل أشكال الإضاءة الحديثة، وما بين مجالس الذكر في المساجد، يتغنى المصريون بأغاني “رمضان جانا وفرحنا به أهلاً رمضان”، وابتهالات السيد النقشبندي، وتفسير الشيخ الشعراوي للقرآن الكريم.
وهناك طقس جميل في مصر وهو إهداء الأصدقاء بعضهم لبعض زينة رمضان، وكنت أفرح كثيرا بهدايا صديقتي زينب فرغلي وداليا فاروق قبيل رمضان، وانتظرهم مثل الأطفال.

رمضان في المملكة العربية السعودية
يمتاز بطقوس دينية و اجتماعية و أعمال خيرية و من بين الطقوس الرمضانية في السعودية
الغبقة وهي اجتماع عائلي أو بين الأصدقاء بعد صلاة التراويح لتناول وجبة خفيفة وتبادل الأحاديث، مع انتشار هذه العادة في المناطق كالرياض والشرقية.
والكريكعان في منتصف رمضان، يلبس الأطفال الملابس التقليدية ويطوفون المنازل منشدين عطونا الله يعطيكم.. بيت مكة يوديكم
وطبعا تقديم الأكلات الرمضانية مثل العسل و التمر و السمن والسمبوسه وتشتهر بعض الأكلات الخاصة في
الجنوب (مثل عسير) تُقدم أطباق مثل العصيدة وهي (عجينة من الدقيق مع المرق).
اما في المنطقة الشرقية تشتهر بـالمكبوس (أرز مع لحم أو دجاج) وايضا الثريد
اما في نجد التركيز على أطباق اللحم المشوي والأرز الهاش.
وقد امضيت في الرياض اكثر من رمضان على مدى سنوات وقد كانت اجواء مليئة بالإيمان والطقوس الدينية حيث إنني في احدى الليالي الرمضانية في بيتنا في الرياض بعد يوم طويل من التعبد والأذكار رأيت أجمل رؤية في حياتي لا يمكن ان تنسى او تمحى من وجداني
وما يمز اجواء الرياض الحياة الاجتماعية الحافلة فقد كنا نجتمع كل يوم بالتناوب بيننا كل يوم في بيت مختلف على السحور في أجواءً تملأها الرحمة والمحبة.

أما في مكة والمدينة تتجلي الحفاوة بشهر الصيام بتوزيع وجبات الإفطار داخل الحرمين التي تحتوي على التمر والحليب والعصائر والوجبات على الصائمين، إلى جانب موائد الرحمن.
وأهل الحجاز حريصون على طقس التوجه إلى المسجد النبوي قبل المغرب بنحو ساعة والجلوس حول الحجرة النبوية. وتحرص المنازل السعودية على توافر أطعمة بينها لشهر رمضان منها الجريش والقرصان والشوربا والفول والمقليات مثل السمبوسك والبريك والزلابية والسوبيا والمهلبية حمص الشام.

دول الخليج تتميز بعادات مثل “الشعبنة” التي تُقام في أواخر شهر شعبان، و”الغبقة” التي يلتقي فيها الأهل والمقربون بملابسهم الوطنية في أواخر رمضان،

حافظت دول الخليج الكويت والبحرين وقطر و الإمارات العربية المتحدة ، على الموروث التقليدي وهو احتفال الأطفال بليلة الخامس عشر من رمضان، وهو يوم “القرقيعان”، وهو احتفال ترعاه الدولة والمؤسسات الخاصة بتقديم الهدايا والحلويات، حيث يرتدي الأطفال الأزياء الشعبية، ويطوفون على المنازل القريبة وهم يغنون، بغية ملء أكياسهم بأنواع الحلوى والمكسرات التي يجهزها الأهالي لإسعاد الصغار.
وقد حضرت شهر رمضان في ( أبوظبي ) في الإمارات في احدى السنوات بضعة ايام فأحسست بالمودة والتآلف والبساطة والأخلاق الطيبة.

يظل رمضان هو شهر الطاعة والتقرب من الله والتخلي عن الأطماع الدنيوية وصفاء القلوب وحب كل أشكال الخير، وهو شهر الفرحة والحب والسلام والتعاون والرحمة، فأهلا شهر الخير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى