حكايات للوطن: برفسور فتحية عبد الماجد .

" وجه الحقيقه "

✍️ إبراهيم شقلاوي :

في زمن الحرب تحدث التحولات وتنكشف معادن الناس، عندما تغيب ملامح الفرح وتطغى مشاهد الدمار، تظل هناك لحظات إنسانية تخترق القسوة، تعيد تعريف البطولة، وتصنع الأمل وسط الظلام . حين يكون الوطن في مواجهة اختبار البقاء، يبرز من بين الركام رجال ونساء يختارون الصمود في جميع المجالات، ليس لأنهم مجبرون، بل لأنهم يؤمنون بأن الوفاء للوطن التزام لا يعرف التراجع او الانكسار.

أحد هذه المشاهد المؤثرة التي ضجت بها وسائل التواصل الاجتماعي في السودان بالأمس، كان داخل مستشفى البلك بأم درمان، حيث وقف الأطباء والمرضى في صف طويل، يصفقون بحب وامتنان، يحيّون طبيبة لم تغادر مواقعها منذ عامين، ظلت مرابطة مع مرضاها، تتقاسم معهم قسوة الحياة ومر الألم، وتصمد أمام الخوف وقسوة الظروف . إنها البروفيسور فتحية أحمد عبد الماجد، استشارية طب الأطفال وحديثي الولادة، التي اختارت البقاء إلى جانب المرضي، رغم القصف العشوائي الذي كانت تشنه مليشيا الدعم السريع، علي كامل المنطقة حيث استهدفت المستشفى مرتين بالتدوين إلا أن طبيبتنا كانت، وتواجه الموت بالحياة.

في السودان لم يكن الأطباء وكادر التمريض والمختبرات مجرد عاملين في قطاع الصحة، بل كانوا خط الدفاع الأول في الصمود في واحدة من أقسى الفترات التي مرت بها البلاد. تحت القصف وسط شح الإمكانيات، في مستشفيات لم تسلم من الدمار، وقفوا بثبات يحملون أرواحهم على أكفهم، يطببون الجراح، ويمنحون المرضى العزيمة للاستمرار. بعضهم فقد حياته، وبعضهم اضطر للنزوح، لكن كثيرين قرروا البقاء، لأنهم يدركون أن رسالة الطبيب لا تعرف التراجع او الخذلان .

البروفيسور فتحية لم تكن استثناءً، بل كانت نموذجًا لهذا الإيمان العميق بالواجب. لعامين كاملين لم تغادر مستشفى البلك، رغم القصف العشوائي الذي استهدف محلية كرري، ورغم الظروف القاسية التي جعلت البقاء نفسه تحديًا. كانت تقول لمن حولها: “أنا هنا.. لن أترككم”. لم يكن ذلك مجرد شعار، بل كان التزامًا تُرجم إلى ساعات لا تنتهي من العمل لإنقاذ الأطفال حديثي الولادة وغيرهم، وسط أجواء لم تكن تصلح لشيء سوى الموت أو بقاء الأبطال المؤمنين بأن القدر خيره وشره ابتلاء ما بين الشكر والصبر.

على ذات الدرب مضت الدكتورة صفاء علي يوسف، استشارية أمراض النساء والتوليد، التي لم تمنعها الحرب من أداء واجبها في المستشفى السعودي بأم درمان. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، ورغم المخاطر الجسيمة، واصلت صفاء تقديم الرعاية للأمهات والحوامل، متحديةً الظروف الأمنية الصعبة، مدركةً أن كل دقيقة تقضيها في المستشفى تعني حياة جديدة تُنقذ من براثن الموت.

في مقابلة مع صحيفة “الشرق”، تحدثت عن الساعات الأولى من الحرب، عن الخوف الذي تحوّل إلى يقين بأن البقاء هو الخيار الوحيد، ليس لنفسها، ولكن لمن يحتاجون إليها. لم يكن الطريق سهلًا، لكنها اختارت السير فيه حتى النهاية، لتصبح رمزًا للوفاء في زمن المحن.

جهودها لم تمر دون تقدير، فقد حظيت بتكريم رسمي من والي الخرطوم احمد عثمان حمزة الذي هو قصة في ذاته نخشي أن نروي تفاصيلها مخافة أن يظن البعض أننا من ماسحي الجوخ أو حارقي بخور السلطان، وسط إشادة من زملائها الذين اعتبروها مثالًا حيًا للمرأة السودانية التي تواجه التحديات بشجاعة وإصرار. والتضحيات والبطولات كثيرة في هذه الحرب التي اظهرت معدن أهل السودان.

ولكن كما يتضح من التضحيات التي قدمها الأطباء السودانيون، فإن مشهد الصمود هذا لا يجب أن يظل مجرد ذكرى يُحتفى بها في المناسبات، بل يجب أن يُترجم إلى خطوات عملية لإصلاح القطاع الصحي الذي لحق به دمار كبير خلال الحرب.

عليه ندعو أن يكون هناك تركيز على إعادة بناء المستشفيات والمراكز الصحية التي تعرضت للتدمير. يمكن تطبيق حلول مبتكرة، مثل إنشاء مستشفيات ميدانية أو عيادات متنقلة، لتعويض نقص المستشفيات الثابتة في المناطق الأكثر تضررًا. على الاقل في المناطق التي بدات الآن تشهد تدفقات من المواطنين العائدين إلى بيوتهم. كذلك من المهم بعد ما عايشه الأطباء من ظروف قاسية، لا بد من تطوير برامج تدريب مستمرة للكوادر الطبية، وتحفيزهم معنويًا وماديًا للبقاء في القطاع وضمان الاستمرار. أيضا في جانب التأمين الصحي يحب توسيع الخدمات، بأن يُعاد بناء نظام تأمين صحي شامل ويُتاح لجميع المواطنين، مع زيادة عدد المرافق الصحية وتحسين قدرتها على مواجهة الأزمات. بجانب تعزيز الشراكات مع المنظمات الدولية لتوفير الدعم المالي والفني، و إعادة بناء النظام الصحي على أسس جديدة.

لقد أثبت الأطباء السودانيون، وعلى رأسهم البروفيسور فتحية أحمد عبد الماجد والدكتورة صفاء علي يوسف، أن الوطنية ليست مجرد انتماء جغرافي، بل التزام أخلاقي لا يتغير حتى في أحلك الظروف. مشهد التصفيق الذي حظيت به فتحية، والتقدير الذي نالته صفاء، لم يكونا مجرد لحظات عابرة، بل شهادة حية على أن هناك من اختاروا أن يكونوا في الجانب الصحيح من التاريخ. بعكس أولئك الذين صنعوا الحرب وعادوا ليقولوا اوقفوها ليس لشي سوي لأنهم لم يكونوا يتصورون ان خياراتهم المطورة هي الحريق.

نحن في وجه الحقيقة نبعث برسالة حب ووفاء إلى كل طبيب أو كادر طبي لم يغادر موقعه، إلى كل يد امتدت لإنقاذ حياة، إلى كل من ظل وفيًا لوطنه في زمن الخذلان والانكسار..لكم كل التحية والإحترام . أنتم ابطال الكرامة الحقيقين بجانب الجيش والمستنفرين وكل من عرف عزة الأوطان وحرمتها.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 5 مارس 2025 م [email protected]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى