– جدلية تفويض البرهان ؟

✍️ إبراهيم شقلاوي:
مسألة تفويض الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان لإدارة شؤون السودان في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد قضية تثير نقاشًا سياسيًا واسعًا هذه الأيام . يقف هذا التفويض كخيار يراه البعض ضرورة لتحقيق وحدة البلاد ، ورتق النسيج الاجتماعي الذي تمزق بفعل الصراعات السياسية والعسكرية . ولكن هل يمكن لمثل هذا الخيار أن يقدم حلاً مستدامًا في هذه المرحلة التي أصبحت فيها أولويات السودانين لتثبيت دعائم الأمن والاستقرار دعونا نناقش هذه الأفكار للإجابة على سؤال جدلية التفويض بالنظر إلى واقع الأحزاب السياسية السودانية والتجارب الاقليمية والدولية .
خطاب البرهان بالأمس في ام درمان ، حمل رسائل متعددة تعكس واقعاً سياسياً متشابكاً ، يختلط فيه البعد العسكري بالمدني ، والطموحات الوطنية بالتحديات المتراكمة . أكد فيه على الشراكة مع كل من وقف إلى جانب القوات المسلحة في “معركة الكرامة” وأشار إلى ضرورة إبعاد القوى التي حملت السلاح ضد الدولة عن المشهد السياسي . هذا الموقف يفتح باب النقاش حول الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة العسكرية في السودان ، وسط تعثر الأحزاب السياسية وتدهور الأوضاع الأمنية .
عند دراسة الفلسفة السياسية يبرز مفهوم الحكم المدني كإطار يتيح إدارة شؤون المجتمع عبر التعددية الحزبية والمنافسة بين الأفكار الإصلاحية . ومع ذلك فإن التجربة السودانية أظهرت عجز الأحزاب عن استثمار هذا الإطار بشكل يحقق الاستقرار والتنمية . لقد اتسمت تجربة الأحزاب السياسية السودانية في أغلبها بعدم امتلاك برامج ورؤى واضحة ، بالإضافة للخلافات الداخلية التي جعلتها عرضة للانقسامات بجانب الصراعات الصفرية والارتهان للخارج ما دفع البلاد إلى أزمات مركبة انتهت بحرب شاملة . هذا الوضع يدفع الجيش إلى التدخل ليس فقط كحامٍ للأمن القومي ، ولكن كفاعل سياسي يسعى لإعادة ترتيب المشهد .
ومع ذلك فإن هذا التدخل لا يأتِ من فراغ ؛ إذ أن الأحزاب بفشلها المتكرر مهدت الطريق لتقدم المؤسسة العسكرية كبديل . بالمقابل يرى أنصار تفويض البرهان أن المؤسسة العسكرية تملك الصفة القومية بجانب التنظيم والانضباط ما يمكنها من حفظ وحدة البلاد وبسط الأمن في هذه المرحلة . وفي هذا السياق يُطرح تساؤلا مشروعا ؛ هل يمكن للجيش أن يلعب دورًا مرحليًا دون أن يتحول إلى سلطة مستدامة تعيق التحول الديمقراطي لاحقًا ؟ التاريخ السياسي السوداني حافل بتجارب شهدت تدخل العسكر لإنقاذ البلاد من الفوضى ، لكن النتائج غالباً ما كانت مثار جدل كبير . ومع ذلك فإن تجربة الحرب الحالية أكدت أهمية وجود مؤسسة عسكرية قادرة على الحفاظ على وحدة البلاد .
لذلك فالنقاش حول دور المؤسسة العسكرية ليس مقتصراً على السودان ؛ فالتاريخ الحديث مليء بنماذج لقيادات عسكرية ساهمت في بناء دول مستقرة ، مثل شارل ديغول في فرنسا وأيزنهاور في الولايات المتحدة . هناك أيضاً تجارب أخرى انتهت إلى عسكرة الدولة وإضعاف الحياة المدنية . في الحالة السودانية يبدو أن المؤسسة العسكرية تجد نفسها مضطرة للعب دورت مزدوجا : حماية البلاد من الانهيار الأمني وفي الوقت نفسه إدارة شؤون الدولة السياسية .
في ظل هذا الجدل تبرز تجارب إقليمية ودولية يمكن الاستفادة منها . التجربة التركية عام 1980 تقدم نموذجًا حيث تدخل الجيش عقب اضطرابات سياسية وأمنية ، ثم أدار المرحلة الانتقالية بشكل مباشر مع تنظيم استفتاء على دستور جديد ، وعادت السلطة تدريجيًا إلى المدنيين عبر انتخابات . كذلك التجربة التايلاندية عام 2014 أظهرت دور الجيش في إدارة مرحلة انتقالية عقب اضطرابات مشابهة ، حيث وضعت خارطة طريق تضمنت إصلاحات سياسية وانتخابات لاحقة . لكن هذه التجارب تُظهر أيضًا أن نجاح مثل هذه التدخلات يعتمد على وجود رؤية واضحة والتزام بتسليم السلطة في الوقت المناسب .
بالعودة للسودان فإن تفويض المؤسسة العسكرية يتطلب شروطًا دقيقة تضمن عدم تحول هذا الخيار إلى حكم عسكري طويل الأمد . لذلك من المهم أن يتم هذا التفويض عبر استفتاء شعبي مباشر بمشاركة واسعة من خلال الآليات الوطنية التي يمكن من خلالها تحقيق توافق حقيقي حول مستقبل البلاد .
خطاب البرهان الأخير أشار بوضوح إلى رغبة المؤسسة العسكرية في تمهيد الطريق لنظام ديمقراطي . هذا الالتزام يحتاج إلى ترجمة عملية من خلال خارطة طريق واضحة تضمن خروج المؤسسة العسكرية من المشهد السياسي في نهاية الفترة الانتقالية . على الصعيد الدولي فإن الدعم الشعبي لقيادة المرحلة الانتقالية يمكن أن يكون عاملًا حاسمًا لمواجهة أي ضغوط أو ابتزاز خارجي ، إذا ما بُني على شرعية شعبية صادقة تمثل إرادة السودانيين .
إن التوازن بين المدني والعسكري في السودان يتطلب إعادة النظر في أسس العلاقة بين الجيش والاحزاب الوطنية المطلوب هو صياغة ميثاق وطني يُحدّد دور كل طرف ، ويضمن انتقالًا سلسًا نحو دولة مدنية ديمقراطية تحترم إرادة الشعب .
التفويض الذي يمكن التوافق عليه والذي يمثل رغبة السواد الأعظم من السودانيين جراء حرصهم على استعادة الأمن وتحقيق السلام يجب أن يتم وفقا لآليات وطنية ، عبر استفتاء شعبي مباشر ، بمشاركة كافة شرائح المجتمع السوداني في عملية التصويت ، بما في ذلك النازحين واللاجئين ، لضمان تمثيل حقيقي لجميع السودانيين . مع وضع قيود زمنية حتي لا يتحول إلى حكم طويل الأمد . مع وضع خارطة طريق بأهداف وطنية محددة يتم انجازها خلال الفترة .
عليه وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة فإن السودان يواجه لحظة مفصلية تتطلب قيادة قوية قادرة على تجاوز الانقسامات ، إذا شعر السودانيون بأن هذه القيادة تمثل إرادتهم وتسعى لتحقيق أهدافهم، فإن الدعم الشعبي سيمثل خط الدفاع الأول ضد أي ابتزاز إقليمي او دولي كما انه يقفل باب المزايدة علي الشرعية لذلك يتطلب الأمر وضع استراتيجية شاملة تستند إلى آليات التفويض الشعبي والسيادة الوطنية . هذا وحده يقفل باب جدلية ترشيح البرهان لرئاسة البلاد .
دمتم بخير وعافية .
الجمعة 14 فبراير 2025 م. [email protected]