إعادة تشكيل البُنية؛ عرضٌ لكتاب حَوْزُ الزُّمرَة؛ الحَياة في منطقةِ ‏الميليشات

✍🏼د. محمد الزغول : 

يُناقشُ كتابُ “حَوْزُ الزُّمرَة؛ الحَياة في منطقةِ الميليشيات” ‏الصَّادرُ عن وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات ‏ظاهرةَ “الميليشيات” التي استفحَلت خلالَ العقدينِ الأخيرين في منطقةِ ‏الشرقِ الأوسطِ. ويُفتَتحُ الكتاب بمُقدّمة بقلم سعادة الدكتورة ابتسام ‏الكتبي؛ الرئيس المؤسِّس لمركز الإمارات للسياسات، تستعرض فيها ‏أهميةَ الموضوع، والأسباب الموضوعية والظَّرفية التي دفعت المركز ‏نحو تبنّي فكرة هذا المشروع البحثي. وتضيف الدكتورة الكتبي: من ‏منطلق هذه الأهميّة البنيويّة – لا من منطلق اللحظة الراهنة فحسب ‏‏– ركّز المحللون في مركز الإمارات للسياسات على دراسة ظاهرة ‏الميليشيات باعتبارها شبكة مرتبطة بمشروع هيمنة، ونمطًا من ‏‏”الفاعلين دون الدولة” يُمارِسُ أنشطةً من شأنها تهميش “مؤسسة ‏الدولة”، وإضعافها. وهي شبكة ذات مصالح اقتصادية مُترابطة تترك ‏آثارًا جوهرية على المسارات الاقتصادية في المنطقة.‏
وشارك في إعداد هذا الكتاب عددٌ من المحللين المتخصصين ‏الذين استندوا في دراساتهم إلى مصادر أصلية باللغات: العربية، ‏والإنكليزية، والروسية، والصينية، والعِبْريّة إلى جانب المصادر ‏الفارسية التي شكّلت غالبية الإحالات. وحرصت وحدة الدراسات ‏الإيرانية المشرفة على إعداد هذا الكتاب على تقديم رؤية متماسكة، ‏ومنسجمة، لا تعمل على تشويش فكر القارئ، وإنما تضعه في سياق ‏نموذج عمل أو “بارادايم” (‏Paradigm‏) لكيفية اشتغال هذه المنظومة.‏
أولًا؛ استعراض موجز لمنهجية البحث، ومحتويات الكتاب ‏
يستعرض المحررون في الملخص التنفيذي، خلاصة ‏الاستنتاجات التي تمّ التوصل إليها في كل فصلٍ من فصول الكتاب، ‏بلغة مكثفة، ومختصرة، ومباشرة تلائم احتياجات المعنيين بالمُكثَّفات ‏من المتخصصين وصُنّاع القرار.‏
ويشرح مُعدُّو الكتاب منهجياتهم العلميّة في التمهيد الذي جرى ‏تخصيصه لمناقشة الإشكاليات المتعلقة بالمصطلح، حيث يخلص ‏المؤلفون إلى أنه: “كان يمكنُ الاكتفاءُ بالتَّعبيرِ عن هذه الظَّاهرةِ ‏الإقليميَّة، من خلالِ مصطلح “الميليشيا”، دون استدعاءِ مصطلحاتٍ ‏أُخرى، مثل: “اللّاعبين دونَ الدَّولة”، لولا أنَّ تطوُّرَ بعض الميليشيات ‏في منطقة الشرق الأوسط أخرجَها بالفعلِ من دائرةِ تعريفِ هذا ‏المُصطلح؛ إذْ توسَّعت “ميليشياتٌ سابقةٌ” في إمكاناتها، وأنشطتها، ‏وحَوْزِها الجغرافيّ، وطريقةِ انتشارِها فيه؛ حتّى تجاوزت تمامًا المفهومَ ‏التَّقليديَّ للميليشيا؛ حيث تَظهرُ هذه الميليشيات كسُلطةٍ محليَّةٍ ‏تُقدِّم نفسَها، أحيانًا، بديلًا عن الدَّولة، أو تُنازِعُ الدَّولةَ الشرعيّةَ، ‏والسُّلطةَ، والتَّمثيلَ السّياسيَّ للحَوْزِ الجغرافيّ‎.‎‏ وبهذا المَعنى، تكون ‏بعضُ الميليشيات قد تجاوزَت، أيضًا، مفهومَ “المؤسّسات دون ‏الدَّولة”، بعدَ أن تجاوَزت من قبلُ مفهومَ “الميليشيا” الذي باتَ أشبهَ ‏بتعبيرٍ عن دَورها السّابق، كقوّاتٍ غير نظاميَّة، أو مجاميعَ مُسلّحةٍ ‏شعبيَّة. ‏
كما يستعرض التمهيد منهجيّات المقاربة، وخطة البحث العلمي، ‏حيثُ اتَّخذ الكتابُ من “تَفاعُل البُنْيَة واللَّاعب” إطارًا مَرْجِعيًّا يَحكمُ ‏رؤيتَه للحالة. وفي سياقِ هذا الإطار المرجعيّ، يَتعامَلُ معَ القرارات التي ‏يتَّخذها “الفاعلون” (‏Actors‏) باعتبارها موضوعاتٍ (‏Subjects‏) ‏ستؤدّي إلى إعادةِ هيكلة البُنْيَة (‏Restruction‏)، وسوف تَحْكُمُ في ‏مرحلةٍ لاحقةٍ قراراتِ الفاعلين، من خلالِ البُنْيَة الجديدة. ولا يُعنى ‏الكتابُ بدراسةِ الأُطرِ والَّتشكيلاتِ العامّةِ للميليشيات، أو تقديمِ ‏معلوماتٍ تفصيليَّةٍ عن كُلٍّ منها، بمقدارِ ما يَستهدفُ دراستَها بوصفِها ‏فَواعِلَ سياسيَّةً واقتصاديَّةً عقائديَّةً مُتغوِّلَةً على “مؤسَّسة الدَّولة”.‏
وحاول الكتابُ دراسةَ هذا الموضوعِ القديمِ من مُنطلقاتٍ ‏جديدةٍ، ومفاهيمَ مُبتَكرةٍ، تُسايرُ التطوُّراتِ الاستراتيجيَّةَ التي تَشهدُها ‏منطقةُ الشرقِ الأوسط، وطموحاتها في مواكبَةِ التطورِ العالميّ، ‏وخشيتها من تعثُّرِ مشاريعِ التَّنمية الطَّموحة فيها تحتَ وَطْأةِ الواقعِ ‏الجيوسياسيّ، والجيوعسكريّ الذي يُمليه استفحالُ ظاهرةِ ‏الميليشيات؛ ما يعني تأخُّرَ المنطقة عن مشاريعِ التَّنميةِ العالميّةِ ‏المنافِسة، وعن المساراتِ الجيواقتصاديَّة الصَّاعدة، وأن تتَسرَّب إلى ‏بُنيتها آثارُ “التَّصحُّر الاقتصاديِّ” القادمِ من دولِ الأزماتِ، أو “الدُّول ‏الهشَّة”.‏
وجاء الكتابُ في ستة فصول متعاقبة، ومتكاملة؛ حيثُ ناقشَ ‏الفصل الأول جذور الظاهرة الميليشياوية ابتداءً من القَرارِ المؤسِّس، ‏ومرحلة التَّأصيلِ لظاهرةِ “اللَّاعبين دونَ الدَّولة”، وتشكُّل فكرة ‏‏”تَصديرُ الثَّورَة” التي أَعادَت فيما بعدُ، تشكيل الجغرافيا السيّاسيّة ‏للمنطقة عمومًا، مستعرضًا المؤسَّساتِ الرّاعيةَ لشبكةِ “اللَّاعبين دونَ ‏الدَّولة” في إيران بأنواعها: الدعوية، والاقتصادية، والعسكرية، وصولًا ‏إلى مسار تأسيس “فيلق القدس” الذي مثّل مرحلة التَّحوُّلِ الكامل إلى ‏المؤسَّسة. وكيفيّة تطوُّر مسارِ عسكرةِ النفوذِ الإقليميّ الإيراني، ‏وإعادة تشكيل البُنية الإقليمية في الشرق الأوسط، في نفس الوقت ‏الذي أُعيد فيه تشكيل بنية القرار الإيراني. ويستعرض الكتابُ ‏القدرات التسليحية للميليشيات، واستراتيجيّاتِها في العَمَل العسكري، ‏كما يناقش فرص الانتقالِ من مَرحلةِ الوَعيِ المُشتَرَكِ إلى القِيادةِ ‏المشتركَة.‏
‏ ثم يستعرض الكتاب في الفصل الثاني ملامح المرحلة الثانية من ‏المشروع الجيوسياسي الإيراني، والتي تتضمن التحوُّل إلى ما وراءَ ‏الجدارِ الشيعيّ عبر الانتقال من مرتكز التَّشيُّعِ السِّياسيِّ إلى مرتكز ‏الإسلامِ السِّياسيِّ كرافعة جديدة لتوسيعِ النُّفوذِ الإيراني، ومحاولة ‏ثَقْبِ الجدارِ العربيّ في: الأردن ومصر والسودان وليبيا. وكذلك في ‏محاولة النفاذ إلى الشَّرقِ الإسلاميّ عبر تشكيل الميليشيات في ‏أفغانستان وباكستان. ودور حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في هذه ‏المرحلة، باعتبارها الرّابطَ الذي يُمهِّد للانتقالِ إلى حواضنِ الإسلامِ ‏السياسيِّ السُّنّي. كما يناقش هذا الفصل عامل هشاشة الدولة ‏الوطنية التي شكّلت مُرْتَكَزًا ثانيًا للنُّفوذِ الإيراني، وبات استمرارها ‏يُشكِّل مَصلحة استراتيجيَّة لإيران. ‏
وفي الفصل الثالث، الذي تمّ تخصيصه لدراسة ظاهرة ‏‏”التّصَحُّر الاقتصاديّ”، الناشئة عن انتشار الميليشيات، عمل مؤلفو ‏الكتاب على التَّأصيل الاقتصاديّ لظاهرة انتشار الميليشياتِ، ‏موضحين أثر الميليشيات في الاقتصاد الإيراني (الأعباء الاقتصاديَّة ‏لمشروع الهيمنة الإقليميَّة)، وأثرها على الاقتصاد الإقليمي (الطَّريق إلى ‏التَّصحُّرِ الاقتصاديِّ)، وملامح اقتصادِ الميليشياتِ التي لديها ‏منظوماتها الاقتصادية الخاصة (اقتصادُ العالمِ السُّفليّ). وتأثير كل ‏ذلك على الاقتصاداتِ العربيَّة والخليجيَّة.‏
كما يناقش الكتابُ في الفصل الرابع الانعكاساتِ فوق ‏الإقليميّة للظاهرة الميليشياوية، محاولًا تبيين اختلال الرُّؤيةِ ‏والاستراتيجيَّات في مُقاربة القوى الدوليّة لملف الميليشيات عمومًا، ‏وخطوط الالتقاء والافتراق في النظرتين؛ الغربية والشرقية، لمحاولات ‏الهيمنة الإقليمية الإيرانية، وما تعانيه هذه الرؤى الدولية من تناقُضٍ ‏وتَشظٍّ وتعارُضٍ في الأولويات أعاقت بمجموعها المعالجة الدوليّة ‏الفاعلة لهذا الملف في المؤسسات الدولية المعنيّة. وجرى التركيز في هذا ‏الفصل على رؤية الأطراف التالية: الولايات المتحدة والمجموعة ‏الغربية، والصين، وروسيا. ‏
وبالنظر إلى الرؤية الإسرائيلية الخاصة لظاهرة الميليشيات، والتي ‏تعتبرها إسرائيل بمثابة الخطر الوجوديِّ الذي ينبغي التّصدي له ‏ومُعالجته، جرى تخصيص الفصل الخامس لمناقشة مَعالمِ هذه ‏المقاربةِ الإسرائيليَّة؛ حيثُ ناقش الفصل القضيَّةَ الفلسطينيَّةَ ‏باعتبارِها الحُجَّةَ لاستفحالِ الظّاهرة الميليشياويَّة، وميّز بين ثلاث ‏مقارباتٍ إسرائيليَّةٍ في التَّعاملِ معَ الظّاهرةِ الميليشياويَّة: المقاربة ‏العسكريَّة، ومقاربة الرَّدع والاحتواء، ومقاربة التَّسويات.‏
ومن أجل الارتقاء بهذا المشروع البحثي من مستوى المعالجة ‏الأكاديمية والعلمية إلى مستوى الممارسة السياسية، والمعالجة ‏العمليّة، تم تخصيص الفصل السادس من الكتاب لاستعراض أبرز ‏الاستنتاجاتِ العامّة، والسّيناريوهاتِ، والتوصيات التي من شأنها ‏رسم ملامح الطريق إلى النظام الإقليمي باعتباره السبيل إلى (أقْلَمَةِ ‏الحَوْزِ، وتفكيكِ الزُّمرَة) مُحذرًا من أنّ عدم التحرك في الوقت ‏المناسب، قد يؤدي إلى استفحالِ ظاهرةِ الميليشيات في المنطقة، ‏ووصولها إلى نقطة اللاعودة؛ حيث لا يعود من الممكن اجتثاث هذه ‏الظاهرة المُعطّلة لمسار التنمية والاستقرار في المنطقة، من دون تفكُّك ‏البنى السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية المحيطة بها.‏
ثانيًا: الاقتراب من نقطة اللاعودة؛ قرع الجرس نحو تمكين مؤسسة ‏الدولة
يُعْزَى انتشارُ ظاهرة الميليشيات بشكلٍ أساسيٍّ إلى قيام “الثَّورة ‏الإسلاميَّة” في إيران؛ حيثُ نَشأت فكرةُ الميليشيات في ظِلّ تَشكُّلِ نمطٍ ‏خاصٍّ من النُّظُمِ: السّياسيَّة والاجتماعيَّة والعقائديَّة، ذي طابعٍ رِساليٍّ ‏وثوريٍّ عابرٍ للحدود الوطنيَّة.‏
وما كانت “الأيديولوجيا الإسلاميّة الشيعيّة” وحدَها هي التي ‏تَمظْهَرَت في شكل تنظيماتٍ مسلحةٍ أو ميليشيات في منطقة الشرق ‏الأوسط، فقد سبقَها إلى ذلك، ولحقَ بها أيضًا، العديد من ‏الأيديولوجيات الإسلاميّة، وغير الإسلاميّة. لكنّ عددَ الميليشيات التي ‏أنشأتها إيران، وحجمَها، وانتشارَها الجغرافيّ الواسع، وقدراتها ‏التنظيمية، والتسليحية، والاقتصادية، جعلَ منها ظاهرةً غير ‏مسبوقةٍ، ليس في المنطقة وحدها، بل على مستوى العالم كُلّه.‏
وبعدَ أن ترسَّخت الظَّاهرةُ في إيران التي شكَّلت البيئةَ الحَاضِنةَ ‏والمُنْشِئَةَ للميليشيات، اندفعت إلى خارجِ هذا البلدِ؛ وذلك حينما ‏طَمَحَت الميليشيا الأمّ (الحَرسُ الثَّوريُّ الإيرانيُّ) إلى توسيعِ الرُّقعةِ ‏الجغرافيَّةِ لتأثيرها، وتطبيقِ نموذجِها في مناطقَ أُخرى.‏
وببيان معرفي (‏Epistemological‏) فإنَّ قرارَ تأسيس الميليشيات ‏الذي اتخذه “فاعلون بشريّون” في فترة من الزمن –مأخوذين بظرف ‏تاريخي محدَّد– أدّى في مرحلة لاحقةٍ إلى تطوير “بُنية إقليميَّة جديدة” ‏أصبحت بعدَ أربعة عقود من ذلكِ القرارِ التأسيسيِّ البُنيةَ التي تتحكمُ ‏بقراراتِ الفاعلين وتُحدِّدُ توجّهاتِهم. ‏
ولم يكن القرارُ التأسيسيُّ مُنسلِخًا عن “إرادة الهَيمنة” لدى ‏الدَّولة الإيرانيّة، لكنه أسّسَ لنوعٍ خاصٍّ من ممارسة الهيمنة تُمنَح فيها ‏الأولويّةُ للعقيدة في وجهِ الوطن/الدَّولة، وتُعتبرُ الروابطُ العقائديّةُ ‏أكثرَ أصالةً وواقعيّةً من الروابطِ الوطنيّة.‏
ولا يقتصرُ الأمرُ على الدّافعِ الأيديولوجيّ والدافعِ الجيوسياسيّ ‏في ضمانِ استمرارِ ظاهرةِ الميليشيات؛ إذ إنَّ شبكةَ المصالحِ ‏الاقتصاديَّة الواسعة التي حيكت من حولِ شبكةِ الميليشيات، وباتت ‏تُقدَّرُ بعشرات المليارات وتنخرط فيها غالبيَّة هذه الشبكة، ستعمل هي ‏الأُخرى على ضمانِ استمرارِ هذا القرارِ التأسيسيّ، وذلك لضمانِ ‏استمرارِ هذه الشبكةِ الاقتصاديَّةِ الواسعة. ‏
وعلى صعيدٍ متّصل بالاقتصاد، يؤدّي تعاظمُ دورِ الميليشياتِ في ‏منطقةِ الشرقِ الأوسط إلى آثارٍ سلبيَّةٍ على الاقتصادِ العالميّ عبر ‏التشويش على أمنِ الطاقة، وأسعارِها في الأسواق العالميّة، والتأثيرِ ‏على مشاريعِ التعاونِ والانصهارِ الدّوليّ، بما فيها مشاريع الممرات ‏الدوليَّة التي تتخذ من الشرق الأوسط مسارًا لها، والتأثير على تدفُّقِ ‏البضائع، ورفع كُلفةِ النقلِ في الممراتِ المائيّة مثلَ مضيق هرمز، وباب ‏المندب، والبحر الأحمر.‏
وستكونُ للميليشياتِ وارتفاعِ وتيرةِ نشاطها في الشرقِ الأوسط ‏تداعياتٌ جوهريّةٌ على العلاقاتِ الإقليميَّة وطبيعةِ الدَّولة؛ إذ تُظهرُ ‏المعطيات أنَّ استفحالَ ظاهرة الميليشيات أدى إلى زيادةِ الإنفاق ‏العسكري، وارتفاعٍ ملحوظٍ في الموازناتِ العسكريَّةِ في بلدانِ المنطقةِ ‏مقارنة بالمعدلات العالميّة، ومن المرجَّح أن يؤدّيَ استمرارُ هذه ‏الظاهرة، وتعاظم دورها إلى تكريس سباق تسلّح إقليميّ يُعزّز ارتفاعَ ‏الإنفاقِ العسكري إلى حدودٍ أبعد. ‏
هذا وإنّ ارتفاعَ حصة الموازنةِ العسكريَّة من إجماليّ الناتجِ المحليِّ ‏في الشرق الأوسط يُنذرُ بدورِه بسَطوَة العسكريين والمؤسسات ‏العسكريَّة في البلدان العربيّة، وارتفاعِ دور الطبقةِ العسكريَّة ‏والجنرالاتِ في صُنعِ القرارِ الإقليميّ، وترسيخِ دعائمِ الدَّولة التسلُّطيّةِ ‏في الشرقِ الأوسط.‏
وتُظهِرُ مُتابعةُ التَّطوراتِ الإقليميَّة، وكذلك التَّدقيقُ في المَنطقِ ‏الدَّاخليّ لتطوُّرِ ظاهرةِ الميليشيات، اقترابَ المِنطقةِ كثيرًا من نقطة ‏اللّاعودة؛ حيثُ تُشارفُ على الانزلاقِ إلى وَضعيَّةٍ تكون فيها هذه ‏الظَّاهرة واقِعًا مُترسّخًا، لا يُمكِنُ اجتثاثُهُ من دون إطاحةِ النُّظُمِ: ‏السّياسيَّة والاجتماعيّةِ والاقتصاديَّة القائمةِ، والمتُشكِّلة مِن حولِه؛ ما ‏يَعني أيضًا، استفحالَ حالة “التَّصحُّرِ الاقتصاديِّ، والتَّنمويِّ” التي ‏ترتبطُ بدورها ارتباطًا جوهريًّا بظاهرةِ الميليشياتِ. ‏
ثالثًا: المسارات المستقبلية للظاهرة
يجادل المؤلفون بأنّ المقارباتِ التي جرت على مدارِ أكثر من عقدٍ ‏مضى لظاهرة الميليشيات تجاهلت إلى حدٍّ كبيرٍ كونَ هذه الظاهرة ‏الشبكيَّة شهدت تحوّلًا بُنيويًّا مؤثّرًا على طبيعة “مؤسَّسة الدَّولة” في ‏الشرق الأوسط وعلى طبيعةِ المساراتِ الاقتصاديَّةِ في بؤرةٍ تطمحُ إلى ‏لَعِبِ دورٍ فاعل في العالم الاقتصاديّ القادم. ‏
ونتيجة تحوُّلِ الميليشياتِ من مجردِ ظاهرةٍ عَرَضيةٍ هامشيّة إلى ‏ظاهرة مُستفحلة، باتَ المَعنيّون بها أمامَ وضعٍ مختلِفٍ تمامًا؛ ما ‏كشفَ المنطقةَ أمامَ عدّةِ سيناريوهات يرتبط كلٌّ منها بمدى ‏توسّعِ/انحسارِ هذه الظاهرةِ. إذ لا يَقتصر تأثيرُ الميليشيات على المجالِ ‏السياسيّ والواقع العسكري، وإنّما يتجاوزه ليتضمّن الأصعدةَ ‏الاقتصاديَّةَ والثقافيّةَ والدينيّة؛ بل وحتى على صعيد المناخ.‏
‏ ويستعرض الكتاب السيناريوهات العامة التي تنتظر المنطقة في ‏ظل التفاعلات القائمة بين مختلف مستويات الفعل السياسي ‏الإقليمي. وهذه السيناريوهات موزَّعةٌ على ثلاثة أنواعٍ عامّة هي: ‏‏”سيناريو الاستمرار” الذي يفترض استمرار استفحالِ ظاهرة ‏الميليشيات وتوسّعها، و”سيناريو التَّجميد” الذي يفترض توقُّفَ ‏ظاهرةِ الميليشيات عند الحدود الشّيعيَّة، وفشل إيران في توسيعها إلى ‏خارج الحدود الجغرافية التي تُشكِّل فيها الجالياتُ الشّيعيَّةُ قاعدةً ‏اجتماعيَّةً واسعةً. وأخيرًا “سيناريو الانحسار” الذي يتوقّع أن تشهدَ ‏ظاهرة الميليشيات انحسارًا في بعض الدول التي تستضيفها مقابل ‏تعزيز مكانة مؤسسة الدَّولة.‏
ولم يُرجّح المؤلفون أيَّ سيناريو من هذه السيناريوهات الثلاثة –‏رغم أنَّ التطورات الميدانيّة ترجِّحُ بعضها– وإنما أوضحوا الشروط ‏التي يرتبط بها احتمالُ تحقق كل سيناريو، مع التأكيدِ أنَّ الفاعلَ ‏الإنسانيَّ يمكنه أن يزيدَ من احتمالاتِ أيٍّ من السيناريوهات ‏بالخطواتِ الميدانيَّة، ومن خلالِ التَّخطيطِ للقيامِ بإجراءاتٍ داعمةٍ أو ‏احترازيَّة. ‏
يعني ذلك، أنَّ المشهدَ السياسيَّ الإقليميَّ والدَّوليَّ، سيكون خلالَ ‏المرحلةِ القادمةِ أمامَ “سيناريوهات عائمة” أو “سيناريوهات مطروحَة ‏على الطاولة” لن يُرجِّحها شيءٌ سوى الإجراءاتِ التي تتّخذها الأطرافُ ‏المختلفةُ لدعم سيناريو أو تَفاديه.‏
رابعًا: توصياتُ الكتابِ العامَّة
لعلّ أهمَّ توصياتِ الكتابِ هي الدعوة إلى “تمكينِ مؤسَّسةِ ‏الدَّولة”؛ إذ يرى المؤلفون أنَّ العملَ على معالجة الدَّولة الهشَّة سيكونُ ‏البوّابة الأساسيَّة لوقف مسارِ توسُّع شبكة “اللَّاعبين دون الدولة” في ‏المستقبل، كما أنَّه الأداةَ الأجدى في سبيلِ عكسِ المسيرةِ، وتقليصِ ‏نشاطِ الميليشياتِ في الدُّولِ التي تستضيف هذه الظاهرة في الوقت ‏الراهن؛ على ألا يقتصر هذا التَّمكين على الدُّول التي تُعتبرُ عرضةً ‏لمسارِ توسّعِ نشاطِ الميليشيات فحسب، بل يتعين أن تتجاوزَ ذلك إلى ‏تمكينِ مؤسَّسةِ الدَّولة في إيران نفسِها باعتبارها البؤرة الأساسيَّة ‏لنشوء هذه الظاهرة. وعلى الصَّعيد السّياسيّ، يعني ذلك الدَّعوةَ إلى ‏العملِ على بلورةِ اتفاقياتٍ سياسيَّةٍ وأَمْنيَّةٍ وحدوديَّةٍ شاملة لمعالجةِ ‏الخلافات، وضمان إنشاء آليَّة سياسيَّة مُستدامة لفضِّ الخلافات.‏
ويعني تمكينِ مؤسَّسة الدَّولة على الصَّعيد الاقتصاديّ، بذلَ ‏الجهودِ لزيادةِ قدرةِ الدَّولة على إدارة المجتمعات، والقضاءِ على أزماتٍ ‏مثلَ؛ البطالةِ والتَّضخُّمِ والعَجْز. ويستلزمُ هذا التمكين الاقتصاديُّ ‏العملَ على زيادة الاستثمارات من أجل تحريك الاقتصادِ وخلقِ فرصِ ‏العملِ سواءٌ في الدُّولِ المستهدفة التي تعاني من هشاشة الدَّولة، أو ‏الدُّول التي تستضيف الميليشيات أو في إيران. كما يتمثَّل في العملِ على ‏زيادةِ نسبةِ المشاريعِ الاقتصاديَّة المشتركة والاتفاقيَّاتِ الاقتصاديَّةِ ‏الشاملةِ، وكلِّ الخطوات التي تضمن تحوُّلَ المنطقة إلى بؤرة اقتصاديَّة ‏مترابطة على صعيد القرارات وعلى صعيد المصالح. ‏
وعلى الصَّعيد الاقتصاديِّ أيضًا، أثبتت الوقائعُ عدم جدوى ‏العقوبات بصيغتها الراهنة في التَّصدي لظاهرة الميليشيات العقائديَّة ‏إلَّا في حالاتٍ نادرة، كما أثبتت أنَّها عملت على “هشاشة الدَّولة” ‏وتنحيلها، ودَعَمت ظاهرةَ ازدواجيَّةِ القرارِ ونشوءِ اقتصادِ العالم ‏السُّفليّ، لذا فإنَّ هذا الكتابَ يدعو إلى “ترشيدِ العقوبات” وإعادةِ ‏صياغتها بما يضمنُ تجفيفَ مناهلِ الاقتصادِ السُّفليّ الذي طوَّرته ‏شبكةُ الميليشياتِ واعتاشت عليه، إضافَةً إلى وضعِ خططٍ دقيقةٍ ‏للعقوباتِ لا تؤدي إلى هشاشةِ الدَّولة.‏
وفي مستوى أعمقَ من الفعلِ السياسيِّ، يجب مقاربة ظاهرةَ ‏الميليشياتِ من “مستوى عقائدي” فهي نِتاجُ مشروعٍ يستخدمُ الدّافعَ ‏العقائديَّ لتحريكِ الطاقاتِ البشريَّة، ويختارُ الانتماءات ‏الأيديولوجية على حسابِ الدَّولة والانتماء الوطني. ورغم أنَّ ذلك ‏يحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ على الصَّعيدِ المعرفيّ فإنَّ ثمَّة خطواتٍ يوصي بها ‏الكتاب على هذا الصّعيد مثل إنشاءِ/دعمِ قياداتٍ اجتماعيّةٍ ودينيّةٍ في ‏المجتمعات الشّيعيّة بديلةٍ عن تلك التي طالما تبنَّت وروَّجت لقراءةِ ‏العقيدة الشّيعيَّة وفقَ رؤيةِ النظام الثوريّ في إيران. ‏
وبينما تُظهر التَّطوُّرات الميدانيَّة، خاصّةً في العَقد الفائت، أنَّ ‏إيران توجَّهت نحو الانفتاحِ على الإسلامِ السياسيِّ السُّنِّيِّ، واستطاعت ‏من خلال تغيير مسارِها من التَّشيُّع السياسيّ إلى الإسلام السياسيّ أن ‏تبني علاقاتٍ تبعيَّةً مع أطرافٍ إسلاميَّة أُخرى على رأسها “الإخوان ‏المسلمون”. واستنادًا إلى ذلك يوصي هذا الكتابُ بضرورةِ إعادةِ ‏صياغةِ الاستراتيجيَّةِ العربيَّةِ حيال “الإخوانِ المسلمين”، بما يضمنُ ‏وقف هذا التقارب بين الحركةِ وإيران، على أن يجري وضع تصوُّرات ‏لإعادة تأهيل، وإدماج العناصر غير الحركيّة من الإخوان المسلمين في ‏مجتمعاتهم، بالتَّزامنِ مع العملِ على عزلِ المجالِ السياسيِّ عن العقيدةِ ‏الإسلاميَّةِ. ‏
وعلى صعيد المقاربات الدولية، أظهرت التَّجربة التاريخيَّة أنَّ ‏الخللَ المنهجيَّ في التَّعاملِ الدَّولي مع ظاهرةِ الميليشيات العقائديَّةِ في ‏المنطقةِ أدّى إلى فشلِ الجهودِ الأُمميَّةِ في التَّصدي لهذه الظاهرة. ‏وعانت المقاربة الدوليَّة لموضوع الميليشياتِ من مشكلةٍ التَّجزئة، ‏وانطلقت من رؤيةٍ كلاسيكيَّة تعتبرها مجموعاتٍ مسلَّحة “مارقة” على ‏غرارِ مجموعاتٍ سابقة برزت في القرنِ العشرين. واستنادًا إلى الوعيِ ‏بذلك، يقترحُ الكتابُ التَّعاملَ مع الميليشيات باعتبارها حالةً ‏سوسيولوجيَّة تُترجَمُ إلى ظاهرةٍ عسكريَّة منفلتة، كما تُترجم إلى ظاهرةٍ ‏اقتصاديَّةِ. ويدعو الكتاب إلى تجاوزِ الرؤيةِ التجزيئيّةِ التي تتعاملُ مع ‏ظاهرةِ الميليشياتِ في كلِّ بلدٍ باعتبارها ظاهرةً منعزلة؛ والتَّوصُّل إلى ‏رؤيةٍ عامّة تؤكدُ النّظَرَ إلى شبكةِ الميليشياتِ الواسعةِ باعتبارِها ظاهرةً ‏موحّدةً ومترابطة.‏
إنَّ التفكيرَ في الآخَرِ باعتبارِهِ خَطرًا وجوديًّا لدى بعضِ الأطرافِ ‏الدوليّةِ، وتحديدًا إيران وإسرائيل، هو الذي عزّزَ دعائمَ الميليشياتِ. ‏وذلكَ في سياقِ المواجهةِ القائمةِ على هذا الافتراضِ. واتّكأت شبكةُ ‏الميليشياتِ على القضيةِ الفلسطينيةِ في تحصيلِ الشرعيّةِ، والتوسّعِ. ‏وبناء عليه، يوصي الكتابَ بالعملِ على إزالةِ هاجِسِ “الخَطر ‏الوجوديّ” المهيمنِ على فكرِ كلٍّ من إيرانَ وإسرائيلَ، والذي يجعل ‏المعادلة بين الطرفين أقرب إلى الصفريّة، ويصعب معه التوصُّل إلى أية ‏تسويات أو حلول وسطيّة. وفي نفس الوقت، ينبغي التَّأكيدِ على حلِّ ‏المشكلةِ الفلسطينيةِ التي تُعتبرُ ركيزةً من أَهمِّ ركائِزِ الخطابِ ‏الميليشياويّ.‏

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى