وأكثرهم للحق كارهون
الكاتبة/ سلوى بنت خلفان المقبالية
من أبرز الإشكاليات التي يعاني منها المجتمع الإنساني على مر العصور هو التمسك بالرأي والانغماس في الاعتقاد بأن الذات على صواب مطلق، بينما الآخرون على ضلال أو خطأ. هذا التوجه، الذي نجده في كثير من المجتمعات والتوجهات الفكرية، يعكسه القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ” (سورة المؤمنون: 70). تشير هذه الآية إلى حالة رفض الأغلبية للحق، رغم وضوحه، نتيجةً لمصالحهم الشخصية أو لأوهامهم الفكرية التي تبعدهم عن قبول الحقيقة.
تعصب الذات والاعتقاد بالصواب المطلق
من أهم مظاهر “الجاهلية” الفكرية التي نراها اليوم، هو الاعتقاد الراسخ لدى بعض الأفراد أو الجماعات بأنهم هم فقط من يحملون الحقيقة، وأن ما دون ذلك من آراء أو أفكار هي ضلالات أو انحرافات. هذا النوع من التفكير ينعكس في مواقف الناس تجاه الآخرين، حيث يتعاملون معهم بتعالي وازدراء، باعتبار أن من لا يتبع فكرهم أو رؤيتهم هو بالضرورة في خطأ. في الوقت الذي يعتبرون أنفسهم الصالحين أو المتقين، يُظهرون رفضًا أو نفورًا من أي فكر أو رأي يخالف ما يعتقدون به.
هذه الرؤية تنبع من الإعجاب بالنفس والاعتقاد بأن الحق حكرٌ على الفرد أو الجماعة التي ينتمي إليها، مما يولد تعصبًا أعمى يمنع التفكير الموضوعي أو النقاش النزيه. وهنا يأتي التحدي الأكبر: كيف يمكن لأولئك الذين يرون أنفسهم على الحق أن يعترفوا بأنهم قد يكونون في خطأ أو أن آرائهم ليست الحقيقة المطلقة؟
لماذا يكره الناس الحق؟
هناك عدة أسباب تجعل الكثيرين يرفضون الحق حتى عندما يكون جليًا:
1. المصالح الشخصية: في كثير من الأحيان، يتعارض الحق مع مصالح الناس الشخصية أو المادية. عندما يتطلب الحق تضحية بمكانة اجتماعية، أو نفوذ، أو مال، فإن كثيرًا من الناس يفضلون الاستمرار في ضلالهم على مواجهة حقيقة قد تغير أوضاعهم.
2. العناد والكبرياء: الإنسان بطبيعته يميل إلى الدفاع عن آرائه ومواقفه، خاصة إذا كانت مرتبطة بالكبرياء. الاعتراف بالخطأ يتطلب شجاعة نفسية وتواضع، وهي صفات قد تغيب عن كثير من الناس الذين يرون في التراجع عن آرائهم ضعفًا.
3. التأثر بالمحيط الاجتماعي: كثيرًا ما تؤثر البيئة الاجتماعية أو الثقافية في تشكيل معتقدات الأفراد، وتجعلهم يرفضون أي فكرة تخالف ما نشأوا عليه. في هذه الحالات، يكون الكره للحق ناتجًا عن الخوف من نبذ المجتمع أو فقدان الانتماء.
4. الجهل: قد يكون الجهل بالحق نفسه سببًا في كراهيته. الجاهل بالحق قد يراه غريبًا أو مخالفًا لما اعتاد عليه، فيخاف منه أو يعاديه بدلاً من محاولة فهمه.
القرآن ونقد التكبر على الحق
القرآن الكريم حذر من هذه الظاهرة في عدة مواضع، منها قوله تعالى: “بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ” (سورة المؤمنون: 70). هذه الآية تضعنا أمام حقيقة أن رفض الحق ليس بسبب عدم وضوحه، وإنما بسبب كراهية الناس له نتيجة مصالحهم وأهوائهم. وقد أشار القرآن أيضًا إلى أن هذا التكبر على الحق كان السبب الرئيسي في رفض كثير من الأمم السابقة للأنبياء والرسل، على الرغم من أن الحق كان واضحًا وجليًا.
كيف نعالج هذه الظاهرة؟
1. التواضع الفكري: من أهم الخطوات لمعالجة كراهية الحق هو التواضع في الفكر والرأي، والإقرار بأن الإنسان ليس معصومًا وأن رأيه قد يكون قابلًا للتصحيح. التواضع يفتح الباب للنقاش والتفكير المنطقي، ويمنح فرصة للاستماع إلى وجهات نظر الآخرين.
2. البحث عن الحقيقة بدلاً من الدفاع عن المعتقدات: يجب على الفرد أن يجعل هدفه الأول هو البحث عن الحقيقة، وليس الدفاع عن معتقداته الشخصية أو الجماعية. هذا التوجه يجعل الإنسان أكثر انفتاحًا على النقاش والاقتناع بالأدلة.
3. التعلم المستمر: التعلم والانفتاح على آراء وتجارب جديدة يمكن أن يساعد الإنسان في تجاوز العوائق النفسية التي تمنعه من قبول الحق. الجهل هو أحد أكبر أعداء الحقيقة، ولذلك فالسعي المستمر للمعرفة هو أحد السبل لتقريب الإنسان من الحق.
4. الاعتراف بالمصالح الشخصية: يجب أن يكون الإنسان واعيًا بتأثير مصالحه الشخصية على موقفه من الحق. الاعتراف بهذا التأثير يمكن أن يساعده في تحييد هذه المصالح عند بحثه عن الحقيقة.
الخاتمة
إن مسألة “وأكثرهم للحق كارهون” ليست مجرد ظاهرة تاريخية تخص الأقوام السابقة، بل هي حقيقة نعيشها في حياتنا اليومية. رفض الحق نتيجة الأهواء والمصالح والكبرياء هو أمر متكرر في المجتمعات الإنسانية. ولذا، يجب علينا جميعًا أن نكون واعين لهذه النزعة البشرية وأن نعمل جاهدين على تجاوزها بالبحث عن الحقيقة، والتواضع الفكري، وتجنب التعصب الأعمى. لا يمكن لأي شخص أو جماعة أن تحتكر الحقيقة، والسبيل الوحيد للوصول إلى الحق هو النقاش النزيه والمنفتح، والاعتراف بإمكانية الخطأ.