حكايات من الواقع الحِكايه الثالثه : خَريف العُمر

✍️د. ريم الحشار :

في صباحات سبتمبر اللطيفه؛ تُشرق الشمس خَجِلة متواريةً خلف السحب المتفرقه وهي تُنبئنا ببداية ظواهر الخريف وتساقط اوراق الاشجار واستعداد الاجواء لاستقبال صقيع الشتاء.

وفي لحظه صفاء وبينما كنت احتسي الشاي في هذا الصباح اللطيف، تبادر الى ذهني صورة الشجره وثباتها رغم تقلب الفصول؛ وكيف انها بثباتها تشبه الانسان وتقلب احواله؛ فتجدها منهزمه تتساقط اوراقها في خَريف العُمر، وتُصاب بالجمود وانعدام الحياه في صقيع الشتاء، وما تلبث الا ان تُزهِر وتتورد فرحا في الربيع، لنجني ثِمار تَقلباتها السنويه في فصل الصيف.

فتقلبات الطقس وإختلاف الظروف على الانسان، لا تثنيه عن الثبات والتّجذر في مَنبتِه وإستمرار عطاءه المُثمر.

ورحلت هنا بفكري نحو علاقة الطبيب بالظروف المحيطه وكيف له ان يحافظ على مبادئه الانسانيه، وإحساسه المرهف إتجاه مرضاه، وإشعارهم أنه رغم تقلب الاجواء من حوله يهتم لحالهم ، وأنه سيمد يد العون والمساعده لِتَوفِيرِ كُل السُّبل لعلاجهم ، وتقديم لَمسَة اليْدِ الْحانِيه لِشِفائهم.

وتصّدرت المشهد الفِكري “الخاله نبيله” ذات الوجه الأبيض السَّمح ، والوجنتين الورديتين والمظهر الدافئ والذي يمتلئ حنانًا.

كانت الخاله نبيله حلوة الكلام، رقيقة المشاعر، تغلب على أحاديثها كلمات الحب والأمومه. وكانت تُشرف على سِتّينيات العُمر.

وعلمت من زياراتها المتعدده لنا في المركز الصحي انها تعاني من إرتفاع في ضغط الدم ؛ كما انها تعاني من مرض الربو – وهو مرض رئوي يصيب جميع الاعمار ويسبب تضيق في الشعب الهوائيه-.

وكانت تلتزم بمراجعتنا دوريا في المركز الصحي لإجراء الفحوصات الدوريه المطلوبه للمحافظه على ثبات المؤشرات الحيويه ، و لمراقبه إستجابتها للعلاجات المقدمه.

وكالعاده حضرت ذات صباح بوجهها الجميل وحنانها الذي يطغى على كل حالة لمراجعة نتائج فحوصات الدم التي قد تم اخذها في وقت سابق.

وبينما كنت اتبادل أطراف الحديث معها؛ شد إنتباهي مستوى الدم الذي لم يكن بمستواه الطبيعي والذي تزحزح للإنخفاض بدرجه!

حيث كان مستوى الهيموجلوبين يساوي 10.9 جراما لكل ديسي لتر (وحدة القياس). وهو مستوى لا يعتبر مُنخفض جدًا ولكنه وبِمقارنةِ فِحوصاتها السَّابِقه فقد كان ينخفض بدرجه!

وللعلم بالشئ؛ فإن الإنخفاض البسيط فالدم لدى كبار السن يحتاج الى متابعه لضمان حصولهم على التغذيه المناسبه والتي تضمن استقرار حالتهم الصحيه وحمايتهم من الاصابه بفقر الدم التغذوي.

ومما كان مُلفِتًا أن الخاله نبيله وبعد تبادل أطراف الحديث معها والتي كنت من باب الظرافه أُسّمي حالة الانسجام فيها مع مرضاي لمعرفة التاريخ المرضي “بالاستجواب” -الاستجواب المرغوب من قِبل كِلا الطرفين- تبّين أنها دخلت للمستشفى المرجعي وتَرَقدَت فيه لمدة يومين لإجراء الفحوصات وذلك بعد احساسها بعوارض هبوط! (الدوخه والدوار) والتي أثبتت التحاليل المخبريه ب أنها مُصابه بنقص طفيف في الدم وبأنها لا تحتاج الى إجراءات علاجيه سوى إمدادها بِمُكملات الحديد التي يجب ان تتناولها لمده ثلاثة اشهر! ليعاود الدم للارتفاع للمستوى الطبيعي.

ومع إيقاني بإمكانات المستشفى المرجعي المتقدمه وظني أنهم وبالإمكانات المتاحه سيقوموا بعمل كل الفحوصات اللازمه للتقصي عن حاله نقص الدم التي تعاني منها الخاله نبيله؛ إلّا أنني لم أتوانى عن طلب الكشف المخبري للدم والذي يحدد لي كطبيب معالج صوره تحليليه أشمل عن اسباب هذا النقص الطفيف! ؛ فقد كان من ضِمن ما طلبته لها هو: فحص أمراض الدم الوراثيه, ومخزون الحديد , كما والكشف المجهري والذي يُستخدم للكشف عن حالات “سرطان الدم” والذي يُعتبر من الأمراض التي تُسبب إختلال في مُستوى نتائج فحص الدم كما وهبوط في مُستوى الهيموجلوبين.

وكنت بكامل الثقه! ان عوامل السن هي السبب الرئيسي في تراجع مستويات الدم وان فحوصاتها ستكون سليمة، باذن الله!

وبعد ثلاثة اسابيع حضرت الحنونه الخاله نبيله وانا استقبلها بكل بشاشه…

كيف حالك يا خالتي : الحمد لله بنتي!

هل أنتي مستمره على علاجك و مكملات الحديد: نعم يا بنتي!

هل تشعرين بأيّ أعراض مثل الدوار او الدوخه او تسارع في دقات القلب : لا أبدا يا بنتي، الحمدلله!

وفي سلاسه في تبادل أطراف الحديث معها، كنت أنقر على الحاسوب لفتح الملف الخاص بالخاله نبيله.

واذا بي أُصعق بنتيجة الفحص!

وأستأذنها للخروج والتأكد من المُختبر عن نتيجه إحدى الفحوصات.

والحقيقه هي أنني أردت أن أتاكد مما رأت عيني!

فهلعت للإستشاري الاول في المركز الصحي وقتها وهي مُعلمتنا وأُستاذتنا وقدوتنا العلميه والعمليه.

دكتوره !

ترد الاستشاريه : نعم يا ريم

أجبت : عندي حالة سرطان!

ترد علّي : وكيف حددتي ذلك؟!

اجبت: الفحص المجهري أظهر نوع من أنواع سرطان الدّم البطئ المزمن وهو “إبيضاض الدم النقوي المزمن”

قالت : أخبريها

قلت: لم أُجرب تطبيق ما درسناه على الواقع من ” نقل الاخبار السيئه” للمريض!

قالت: تعلمي الان واسترجعي ما درستيه.

فرجعت للخاله نبيله وانا أطأطئ الرأس وخطواتي ثقيله!

كيف سأخبر تلك الدافئه الحنونه بهذا الخبر؟! وماذا ستكون ردت فعلها؟! هل ستبكي؟ ام انها ستكذبني؟! ام انها ستفقد الثقه فيني؟!

دخلت الى الغرفه وجلست بهدوء وانا أُحاول تهدئة نفسي أولا للإسترسال في تطبيق ما تعلمناه من قواعد الحوار عند نقل الاخبار السيئه للمريض.

فإسترسلت في نقل الخبر لها وبالتدريج والتنظيم الذي تعلمناه.

واذا بالحنونه الدافئه تُنصِت بكل جمال, وتَقّبُل للواقع!

وتسألني: والان! ما هي الخطوه القادمه ؟

فارتفع رأسي ، واستبشرت بردت فعلها والتي تنم عن إيمانٍ كامل؛ وكأنما أتى من سحب عن جسدي ذلك التشنج الشعوري الذي كنت اشعر به داخليا.

فقلت: الا تريدين ان تسألي عن شي اخر او ان تعبري عن مشاعرك بشكل مختلف؟

قالت: لله الامرُ من قبل ومن بعد, هل هناك علاج؟

قلت: نعم!

فقالت: توكلي على الله

فانطلقت بشرح الخطوات القادمه في مرحلة العلاج وأنها ستخضع لمتابعه مباشره من قسم أمراض الدم في المستشفى المرجعي وينتهي دورنا هنا كرعايه صحيه أوليه ليباشر المختصين عملهم في مراعاه حالتها الصحيه.

وقد كنت في غاية السعاده من لطفها ورضاها وتقبلها وأخذها بالاسباب وتقبلها وقبولها لمباشرة العلاج. فقد كان موقفها درس ذكّرني بوجوب الاخذ بالاسباب والرضى التام بقضاء الله وقدره.

ومن الجدير بالذكر فإنني بعد هذه الحادثه جلست في جلسة صفاء مع استاذتي ومعلمتي , والتي أتت لتثني على عملي ولتؤكد على عدم التساهل في اي تفصيله فالنتائج الطبيه ولا على الإتكال على الفحوصات التي أُجريت في مؤسسه أُخرى، وان شمولية العمل وتكامله يحقق إستدامة الجوده فالعمل الصحي والتي تبدأ بالتفاعل الصحيح للخطوط الاولى في مؤسسات الرعايه الصحيه الاوليه.

وقد كان من الظريف فالامر أنَّ الخاله نبيله تمتلك رصيد كبير من المعارف في القطاع الصحي. وقد تلقيت إتصالا هاتفيا من احد اقاربها والذي شكرني على جهودي واثنى على عملنا ودورنا الاساسي في المنظومه المؤسسيه في القطاع الصحي.

والخلاصه تَكمُن هُنا؛

“فتكوين علاقات اجتماعيه طيبه يسودها الحب والرعايه والاحترام والاحساس بظروف ومشاعِر الاخرين هو أساس نَجاحِك وإسهامًا منك في تَجذير مبادئ التعاضُد والأُلفه بين أفراد المُجتمع”

دمتم بحب وود …

#شهر_سبتمبر

#شهر_التوعية_بسرطان_الدم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى