ذهب الحمار بأم عمرو

✍️عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :

قال الجاحظ: دخلت يوماً مدينة، فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة، فسلمت عليه، فرد علي أحسن رد، ورحب بي، فجلست عنده، وباحثته في القرآن؛ فإذا هو ماهر فيه، ثم تفاتحنا الفقه والنحو وأشعار العرب؛ فإذا هو كامل الآداب؛ فكنت أختلف إليه وأزوره.
وجئـت يوماً لزيارته، فإذا بالكتّاب مغلق، ولم أجده؛ فسألت عنه، فقيل: مات له ميت؛ فحزن عليه، وجلس في بيته للعزاء. فذهبت إلى بيته، وطرقت الباب، فخرجت إليّ جارية وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك.
فدخلت وخرجت، وقالت: باسم الله؛ فدخلت إليه، وإذا به جالس. فقلت: عظم الله أجرك؛ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت؛ فعليك بالصبر.
ثم قلت له: هذا الذي توفى ولدك؟ قال: لا.
قلت: فوالدك؟ قال: لا.
قلت: فأخوك؟ قال: لا.
قلت: فزوجتك؟ قال: لا.
فقلت: فمن هو؟
قال: حبيبتي.
فقلت في نفسي: هذه أول المناحس. فقلت: سبحان الله! النساء كثير وستجد غيرها.
فقال: أتظن أني رأيتها؟
قلت: وهذه منحسة ثانية.
ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟
فقال: اعلم أني كنت جالساً في هذا المكان، وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلاً عليه برد، وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة
. ردي عليّ فؤادي أينما كانا
لا تأخذين فؤادي تلعبين به
. فكيف يلعب بالإنسان إنسانا
فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر؛ فعشقتها.
فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
. فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت، فحزنت عليها، وأغلقت المكتب، وجلست في الدار,
فقلت: يا هذا؛ إني كنت قد ألفت كتاباً في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قويت عزمي على إبقائه، وأول ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى