بنية النصّ وجمالياته في القصيدة طاح الليل يا شيخي للشاعر الجزائري توفيق ومان.
نقلها للإفادة كمال فليج _ الان نيوز
بقلم الدكتور عامر شارف / جامعة بسكرة الجزائر.
قراءة في العنوان : يرى الدارسون أنَّ العنوان عتبةٌ من العتبات الموازية للنص، ويبدو بقراءات متنوعة مختلفة، حيث نتأمل في كل لفظة على حدة، ثم نجمع صورة المشهد العنواني، ولهذا أفردتُ هذه القراءة: طاح : دالة على الانكسار، دالة على السقوط، ولفظة الليل : دالة على الشعور بالوحدة، الخوفـ القلق . يا شيخي : داويلي حالي يا شيخي دالة على الاستغاثة والطلب والالتماس ، والألفاظ الثلاثة إذا قرأناها سيميائيا لها دلالة واحدة طاح/ الليل /يا شيخي/ ، وهي سوداوية الحياة، وضبابية الرؤيا لدى الشاعر في زمن الانحطاط العربي .
تناولتُ دراسة مجموعة من العناصر الفنية التي كانت بؤرًا جمالية في النص، جاءت مفصلة كالآتي: 1 ــــــ الرمزية: استخدام الليل كرمز للحزن والألم والغموض: الرمزية في قصيدة “طاح الليل” تعكس مشاعر الحزن والألم والغموض. استخدام الليل كرمز يعبِّر عن الوحدة والهموم. الليل هنا ليس مجرد وقت يحدّد نصف اليوم من الزمن، بل يمثل حالة نفسية تعكس الضياع التام. تكرار عبارة “طاح الليل” يعزز هذا الشعور ويجعله محوراً للتجربة الإنسانية. الليل يرمز إلى الخلوة الذاتية، ومشاق الصعوبات وخرائط المشاعر المعقدة التي يواجهها الإنسان برؤية شاعر، مما يضفي عمقاً فلسفياً على النص في قوله : لوطان كثرت وهبات/ والجلابة انباعت، فالجلابة رمز ، وفي قوله: وتظفر سوالف الملعونين، والسوالفرمز، وهو ما يجعل القارئ يتأمل في تلك الرموز، تلك التجارب الخاصة.
2ــــ الصور الشعرية: الصور الشعرية في هذه القصيدة “طاح الليل يا شيخي ” تعزز من جمال النص وتعمق من تأثيره العاطفي. الشاعر استخدم الوصف الحسي لمشاهد الطبيعة كالليل والسحاب والنجوم لينسُجَ لوحاتٍ بصرية في ذهن القارئ. على سبيل المثال في قوله : وفرارة القهوة في فنجان مثلوم / مكبوب على فمو، صورة حسيّة، دالة على عكس الوضعية العادية التي يعيشها الشاعر أو يعايشها، كما جاء بتصوير السحاب الذي كان وراء الشاعر وأصبح أمامه يعكس التغيرات الاجتماعية، والنفسية التي يمر بها. كما استخدم صور مثل “الدمعة غزات عينيا” يضيف أبعادًا حسية وعاطفية للنص. هذه الصور الحية تجذب القارئ وتجعل القصيدة تجربة شعورية ملموسة، حيث تتداخل الطبيعة مع المشاعر الإنسانية لبناء النص الرصين، لتعبر عن الحزن والأمل والبحث عن السلام الداخلي.
3 ـــــــ التكرار: التكرار في هذه القصيدة أصبح عنصرا أساسي فنيٌّا، يعزز الدلالات المختلفة، ويؤكِّد المعاني العميقة. ويعزّز الإيقاع، وعليه أنَّ تكرار عبارة “طاح الليل” في بداية العديد من الأبيات / محمّلة بدلالات معيّنة في كل محطة، وكل دلالة تعكس الإحساس المستمر بالظلام والوحدة، والانحطاط، وهذا التكرار لا ينسُجُ نمطًا موسيقيًا مميزًا، بل يرسخ أيضًا الشعور اليائس بالزمان والمكان في ذهن القارئ. كما أن التكرار لفظة ” يا شيخي ” تُسهم في إضافة طابع ملحمي على القصيدة، حيث يعبر عن استمرارية المعاناة والاستجداء والاستغاثة بالكبير كما تفعل العرب أيام المحنة، والمصيبة ،” يا شيخي ” بحثًا عن الأمل في كبارنا العقلاء. فتكرار كلمة “يا شيخي” الذي يعبر عن مناشدة مستمرة ورغبة عميقة ، والتماس في الحصول على الدعم والطمأنينة والراحة للشاعر، للمجتمع، للوطن، للعروبة ، وللأمم الإنسانية بصفة عامة.
4 ــ التشبيهات: تعدُّ التشبيهات في قصيدة “طاح الليل” تعزز من جماليات النص وتضفي عليه ابستمويات المعنى، عمقًا، وكشف الدلالات، . وهنا استخدم الشاعر التشبيهات لتشخيص المعنوي، لتوضيح مشاعره وتجسيد تجارب حياته بأسلوب واضح وبليغ، وعلى سبيل المثال، في عبارة “كلام الليل زبدة و كي يطلع النهار يذوب”، يشبه الشاعر الكلام الليلي بالزبدة التي تذوب مع بزوغ النهاروارتفاع درجات الحرارة، وهو مما يعبّر عن زوال الأوهام والأحلام المبنية ليلا مع بزوغ الحقيقة في الواقع المعيش، كذلك، تشبيه “لسان مسكين مسلوب” يوضح حالة الضعف والعجز التي يحسُّ بها الشاعر، ويعيشها المجتمع العربي، هذه التشبيهات تساعد القارئ على تصوُّر خرلئط معاني المجردة بطريقة ملموسة، مما يجعل القصيدة أكثر تأثيرًا وشاعرية، وبخاصة في مثل شعبي : “كلام الليل زبدة و كي يطلع النهار يذوب.
5 ــــــ الاستعارات: تضفي الاستعارات عمقًا شعريًّا في قصيدة “طاح الليل”، وتجعل النص أكثر غموضًا وجمالًا، حيث استخدم الشاعر الاستعارات لنقل مشاعرِهِ ورؤيتِهِ، ورؤياه، وأفكارِهِ بطريقة بعيدة عن المباشرة، وتبدو كذلك مبتكرة، ونذكر عبارة :والدمعة تشوف / ف الهايفة و المنايفة و المعدومة و المقصية ، في الجملة الأولى الدمعة تشوف” استعارة مكنية، فالشاعر ذكر المشبه الدمعة، ولم يذكر المشبه به الإنسان، بل ذكر صفة من لوازم وهو النظر، وفي قوله : يشكي للدهر / عانق كتابو/ والتاريخ يشوف فيه، هنا استارة مكنية في عبارة عانق كتابو ، صفة العناق دالة على الإنسان، تستجيب للحالة النفسية، أما التاريخ يشوف فيه، في هذه الجملة ذكر المشبه ” التاريخ” ، ولم يذكر المشبه به الانسان، بل ذكر صفة من صفاته القرينة، وهو النظر، وعلى سبيل المثال، “زرع حباتو في أرض بور” يستخدم الأرض البور كاستعارة للحياة القاحلة والآمال الضائعة، مما يعبر عن اليأس وقلة الثمار في جهود الإنسان. استعارة “الحليب راب في وسط القربة نداس” تعكس تحلل الأمور وفقدان الصفاء والبراءة، وفي قوله: نغازل الخوف..شبه الخوف كامرأة، وقوله: والوريد يشكي للقلب وين مْباتو…كل هذه الاستعارات وأخرى تنسُج العبارة اللغوية الغاوية الشعرية متعددة المعاني، وتجعل القارئ يتأمل في المعاني العميقة التي تتخندق خلف الكلمات، من خلال الاستعارات، يتمكن الشاعر من تصوير مشاعر معقدة وأفكار فلسفية بطريقة بليغة ومؤثرة.
6 ـــــ الحنين: الحنين في قصيدة “طاح الليل يا شيخي” هو عنصر أساسي، وليس خافتًا، و ليس مجرد تذكُّرِ تاريخ الماضي الجميل، بل هو شعور عميق بالخسارة والبحث عن الأمان والسعادة التي كانت موجودة فيما مضى، حيث يعبر الشاعر عن اشتياقه للماضي الجميل وألمه من الحاضرالتعيس. هذا الحنين يعبر عن الذكريات الجميلة التي كانت تملأ حياته، مقابل الحاضر الذي يملؤه الألم والخيبة والقلق. نذكر على سبيل المثال، “غرست يدي نبتت الندامة” يعبر عن حسرة الشاعر على الأيام الماضية، وندمه على ما فات. أيضًا، “يا شيخي الليل راه طاح” استخدم فيها الشاعر النداء للتعبير عن اشتياقه لشخصية مؤثرة ( من الشيوخ ) في حياته، ربما رمز للحماية، للأمان والدعم الذي كان يجده في الماضي من كبارنا الأجلاء.
· 7ــــ التعبير عن الألم : التعبير عن الألم بهذه الطريقة يعزز من تأثير القصيدة ويجعلها تعكس مشاعر إنسانية مشتركة. ومنه التعبير عن الألم في هذه القصيدة “طاح الليل هو عنصر بارز يعكس معاناة الشاعر الداخلية والمآسي العظيمة، استخدم الشاعر صورًا مؤثرة وكلمات قوية لوصف الألم النفسي والجسدي الذي يشعر به، وصف الألم الداخلي والشوق، وحوالي ثلث الألفاظ لا تخرج من حقل الحزن والأسى، على سبيل المثال، في عبارة “و الوريد يشكي للقلب وين مْباتو”، مستخدمًا الشكوى، يصف الشاعر الألمَ الذي يمتد من القلب إلى الأوردة، مما يعكس شعوره العميق بالحزن والضياع . كذلك، “و الدمعة غزات عينيا” تعبر عن الحزن العميق الذي يجعل الدموع تتدفق بلا توقف. هذه الصور تخلق تجربة عاطفية قوية للقارئ، حيث يشعر بألم الشاعر وكأنها ألم شخصي، وفي قوله : جابو الشواف و العراف / و اللي كان بصيلتو معدوم/ قرالهم الكف ….هذه صور معبرة عن الحسرة والأم عمّا آلى إليه الوضع الحالي. وفي قوله : فِي راسْ العربي / كثر السيبان و كلاتو الهبرية ، كناية على وضع حياة الشقاوة …هذه الصورة التي عبّرت عن مرارة الحياة وشقاوتها .
· 8 ـــــــ اللغة المجازية: استخدام لغة غنية بالمجاز لتعزيز العواطف. ملي وْطىَ سطحي تحل حزامي ” أحس الشاعر بالضعف، فلا يستطيع أن يحمي أرضه وقبيلته وماله، ولا على نفسه ولا على شرفه .ومن المجازات قوله : و رويت بالسْقام ، معناه أحلّت به إصاباتٌ لم يعد يستطيع التأقلم معها، والصبر عليها . وفي قوله : نجيك صايم على كلامي ، من أن أقوم بفعل آخر. هذه الجمل على معني مجازي خيالي ، ولكن لديها ما يحيل على دلالات أخرى ومن الأمثلة أيضا : “و الحليب راب في وسط القربة نداس”، تغير ذوقُه و لونه ، ولم يعد صالحًا للتناول وفي قوله: ركب فوق خيوط الشمس / يظفر في شعاعها ، هي مجازات لغوية محمّلة بدلالات، وفي قوله : بعد ما ريق الماء نشف/ وفي قوله : و صهيوني يرسم في لوحة زيتية / فيها أعمى و أبكم /رجعت قصيدة مرثية ، لها مجازاتها الدلالية في المستوى البلاغي .
· 9 ــــــ الوصف التفصيلي : تقديم وصف دقيق لمشاهد وأحداث تعزز من تجربة القارئ. مثال: “و رموش مْشبّرة على الهايبة و العايبة و المبلية، وفي قوله : و حل لجامو في لرسام ، وفي قوله : ونصبو ألف شهرزاد / في البحور و الجبال و السحاري كثر التعداد ، جاء الشاعر بالوصف التفصيلي لتوضيح الجزيئيات المؤلمة التي تؤثّر في المتلقي .
·
· 10 ــــ الإيقاع: الحفاظ على إيقاع موسيقي جميل من خلال التوازن بين الكلمات والعبارات. – مثال: “الصوت بح ما جابت صيحاتو و نجوم الليل هجرت امباتو ، وفي قوله : ف الهايفة و المنايفة و المعدومة و المقصية ، وفي قوله : المكشوفة و الملفوفة و المهدية ، وفي قوله : طاح الليل ياشيخي و الليل وللى ميعاد / و نصبو ألف شهرزاد / في البحور و الجبال و السحاري كثر التعداد ، فيه تشكيل نغمي، ونبرات إيقاعية، برغم أن النص من الزجل النثري.
11ـــــ الجمل الصوتية : استخدام الأصوات لتعزيز المعنى: ونسج مشاهد صوتية، وبدفوفهم شطح المداح، وقوله : أصبح شعر محكي، وهكذا بصوت الدفوف، وإلقاءات القصائد الشعرية، تكون المشاهد السمعية البصرية جزءًا من صور القصيدة.
· 12ـــــ الإحساس بالغربة والوحدة : تصوير الشاعر لشعوره بالوحدة والعزلة مثل: “طاح الليل، و الزمان رافد نيامو.. وفي قوله الليل طال ما رد عليَّ ، من دون أُنسٍ، ومن دون أَنيس، وفي قوله : راني جيت و كتافي عريانة، من دون حماية، ومن دون أمن، وفي قوله : يا كبير العشاق راني بلا بيك ، من دون حارس، ومن تأمين .
· 13ــــ الشجاعة : التعبير عن الشجاعة في مواجهة الصعاب مثال: والفحل ديما زندة، أي قوي ولا يتصدّى له أحدٌ، وفي قوله : والزند لمتين شَّدة ، أي فيه قوّة يصلح للمصاعرات.
14ـــــــ الأمل واليأس: التوازن بين مشاعر الأمل واليأس، والأمثلة كثيرة غير مستعصية عل القارئ.
· 15 ــــــ اللغة البسيطة: استخدام لغة بسيطة، التي يفهمها الجميع، ومفهومة لدى العامّة، تعزز من تأثير القصيدة مثال: ” تزين حيطان المبكى / و تظفر سوالف الملعونين / الصبي ينين و معانق الياسمين، ألفاظها تقترب من العربية، ومفهومة في وطن المغرب العربي، لا توجد ألفاظ قاموسية ولا ألفاظ فرنسية لا تفهم إلا بالنظر إلى القاموس والشرح والتفسير.
” 16. العواطف الإنسانية: تصوير مجموعة واسعة من العواطف الإنسانية، مثل الحنين، الشجاعة، حب الوطن، حب القوم، التسامح، وكذلك ذم الذل، والاستعباد ، والقهر.
17 ــــــ استدعاء المكان والزمان الربط بين الزمان والمكان لتعزيز المشاعر مما يجعل المعانى المجردة أكثر تبيانا ووضوحا أمام القارئ لأنها تجسد المعنى تجسيدا فنيا مقنعا، وتعزز ارتباط الشاعر بهما : الأوراس الونشريس، جرجرة، معاقل ثورة التحرير الجزائرية المباركة، وقوله “و المليون ونص ما زالت الأمة عليهم تبكي”، وهوما يؤكّد ارتباطه الواعي واللاواعي، أي الشعور الباطني . وفي قوله : الليل و أمواج البحر عْلات، وهنا بات المكان والزمان من بنية النص.
18 ــــــــ الصور الحسية :استخدام الصور الحسية لتعزيز تجربة القارئ ويمكن القول بأن الصورة الحسية وهى التى تلون النص الشعرى بصبغة جمالية، كما تساعد فى تقريب المعانى وتجسيدها ، وهي كثيرة يستجليها القارئ اثناء القراءة.
19ـــــ التضاد استخدام التضاد بين الضوء والظلام، الأمل واليأس مثال:” الليل النهار، في سطور كثير.
20ــــ العبر: تضمين القصيدة للعديد من العبر والحكم التي تعبر عن تجارب الحياة.الاجتماعية والسياسية والمثل الشعبيس، وفيها دروس مفيدة من خلال التجارب التي عاشها الشاعر .
الخاتمة : النّصُّ صوتٌ صارخٌ عالٍ غير مبحوح، يترنّم باكيا، ويبكي مغنيّا، ، نصٌّ تجاوز في لغته ألم الفجائع ، نصٌّ إنساني لشاعر قاوم وناضل بالكلمة، وما زال غير مستسلم، أراهُ نصًّا مبنيًّا على مجموعة من العناصر التي تقوم بتشكيل جماليته، وبصفة تميزه عن نصوص، لم يتوقف ولم يتعثر، أمسك بلغة سرد الشعر، وشعرية السرد بعيدا عن الإبهام، متحدثا واصفا الواقع العربي المخذول، يخاطب المتلقي العربي بكل صراحة، تحت وطأة الليل والسكون، والنوم والانحناء، تحت رايات لم ترفرف في أفق السموات، فقد حاصر بخطابه كلّ الذين انجرُّوا متخاذلين مطبّعين يجرون أذيال المهادنة، نصٌّ يحرك ضمائر من اغتسلوا بماء باردٍ، في الزمن التعيس.