الواقع وتجلياته في قصيدة الملحون للشاعر توفيق ومّان

" طاح الليل، يا شيخي "

نقلها للإفادة كمال فليج _ الان نيوز


بقلم الأستاذ الدكتور  عباس الجبوري _ العراق

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على رسوله المصطفى الأمين .
سبحان من اقضى واحكم، وعلم الإنسان ما لم يعلم ..
هناك الكثير من الباحثين والنقاد والمهتمين بفن شعر الملحون ، يعتبرون أن هذا الشعر له رونقه وجماله دون دراسة وافية . وتشخيص ما عبر عنه مع شيوخه الأوائل، ولكن الجمعية الجزائرية للأدب الشعبي ، وعلى رأسها الشاعر توفيق ومان ، لم يترك فراغا كي لا يخلو وقتنا هذا من نص ذا قيمة فنية ومضمونية أكثر التصاقا بقضايا معاصرة ومصيرية ، لذلك سأعمل جاهدا على تقديم نموذج نص الملحون الذي انجزه الشاعر الجزائري الهمام توفيق ومان ، انطلاقا من مرحلة مهمة مرتبطة جوهريا بالنضال الجزائري ممتدة إلى القضايا المصيرية اليوم ،،، وهويتفنا بهذه القصيدة :
طاح الليل، يا شيخي
يا شيخي راني نحوس عليك
وين أرضك الخافية رد السلامة
يا كبير العشاق راني بلا بيك
يا ناظم لبيات تيجان فوق الهامة
داويلي حالي يا شيخي يا رفيق التهامي
ملي وْطىَ سطحي تحل حزامي
و رويت بالسْقام
و السحاب اللي كان ورايا
صبحْ قدامي
و حصد غلة ذا العام
و استشفى عْدويا على مقامي و رْسامي
و حل لجامو في لرسام
يا شيخي الليل راه طاح
و الصوت ما عاد براح
لا نيف لا صلاح
و الكلام ذاب بين للواح
يا شيخي
كلام الليل زبدة
و كي يطلع النهار يذوب
و الزند لمتين شَّدة
و كي تكثر الوحوش مغلوب
و الفحل ديما زندة
و لسانو مسكين مسلوب
طاح الليل يا شيخي
و الزمان رافد نيامو
و طلع النهار
و باقي الضمير في منامو
سلَّك شعراتو
على جثة هامدة
و زرع حباتو
في ارض بور سادَّة
و الوريد يشكي للقلب وين مْباتو
طاح الليل يا شيخي
و يسقصي في نجومو
الضاوية و الهافته و القليلة
الصاحية و الصامتة و العبرية
الليل طال ما رد عليَّ
و الدمعة غزات عينيا
تسقصي هيّ
ما رد وجاب
كثرة لحباب
و الدمعة تشوف
ف الهايفة و المنايفة و المعدومة و المقصية
طاح الليل
و مصارن الصبي الملونة
المكشوفة و الملفوفة و المهدية
تزين حيطان المبكى
و تظفر سوالف الملعونين
الصبي ينين و معانق الياسمين
يشم في ريقو
و الفل يجرح في الخدين
و طاح اللي طاح
و السوالف تجملت في المراح
و بدفوفهم شطح المداح
بعد ما ريق الماء نشف
و المبلي و للى يشف
الصوت بح
ما جابت صيحاتو
و نجوم الليل
هجرت امباتو
الزمان عليه و زادو خواتو
طاح الليل يا شيخي
وزاد غدر الزمان
نجيك حاني و طاوي علامي
حافي لقدام
نجيك صايم على كلامي
و الهلال ما قام
راه القلب كسر كيسان مدامي
و حرف قصايد الغرام
يا شيخي العار عليك
راني بين يديك
راني جيت و كتافي عريانة
يا صاحب العمامة
غرست يدي نبتت الندامة
هات الكرامة
يا شيخي الواد حمل
و السيف حامي
لفيض المقام
و يزين الورد بذيل المنام
و كاسو ما هو حرام
و لرواح تتسابق ف الزحام
على شْهادة
و شَهْدة
ممزوجة بالعظام
رضيع يناغي
تحت مراية مرصعة
بسوار الشموع
و يولد بحفنة دموع
الصراخ مشروع
قفة مرقعة
بخيط مْهري و الضو مخلوع
طاح الليل
و الحلمة فاقت
تخاطب الزمان
و حلت عبون الذاكرة
لقاتو نعاس
مرحي مع الرصاص
و الحليب راب
في وسط القربة نداس
ظلوا مشروك
و الخيال بلوجاع باقي عساس
طاح الليل
و ركب فوق خيوط الشمس
يظفر في شعاعها
و يعوم في سراحها
و بين السما و الارض
يقرا في حروف الهمس
شعلت صباعو
لهبت نارو
و نقشت أجساد احبابو
الواقفين في كتاف العرس
طاح الليل
و يغازل في عيون الخوف
رموش مْشبّرة
على الهايبة و العايبة و المبلية
و لسوار رايبة مهرية
مكحلة رموش الشوف
مكبلة طبلة و دفوف
الصوت مكري للمد
طلع حيوط و سد
و فراشو مهاجر الصوف
طاح الليل يا شيخي
و فرارة القهوة في فنجان مثلوم
مكبوب على فمو
التلوة خاثرة
مقرية سموم
جابو الشواف و العراف
و اللي كان بصيلتو معدوم
قرالهم الكف
حرك بركان
غزاهم الدف
رقص الكَيان
و الجلابة على السيكة تغني ع المظلوم
طاح الليل
و الاوراس و اللى يشكي
جرجرة و الونشريس
صبح شعر محكي
وما بقى في القيس قيس
كلام البارود
زند مشدود
و المليون ونص
ما زالت الأمة عليهم تبكي
تتفكر ذاتها
وشافت خواتها
في حضن الكيان
تبارك وتزكي
طاح الليل
و ساقية الزمان جرات
لوطان كثرت و هْبَات
و الجلابة نباعت
وتهافتوا على لفتات
و صهيوني يرسم
في لوحة زيتية
فيها
أعمى و أبكم
رجعت قصيدة مرثية
و فراس العربي
كثر السيبان و كلاتو الهبرية
طاح الليل
و أمواج البحر علات
نقشت الصخر
و اللب طلق صرخات
يشكي للدهر
عانق كتابو
و التاريخ يشوف فيه
و العينين مرغرغين بدمعات
طاح الليل
ياشيخي و الليل وللى ميعاد
و نصبو ألف شهرزاد
في البحور و الجبال و السحاري
كثر التعداد
و الراية الخضرة
كل يوم تزيد تسواد
طاح الليل
و خيالو ما بقى خيال
يا شيخي
راه زاحم جثتو في ضيق الحال
ينادي للريح
زادوا حُمة
بعد ما غرس زيتونة و كرمة
و النخل حال
بقى في البال
و الزند يشالي
و العُروبي في يا دلالي
و العين تدمع
كي تسمع تنديد
مكتوب في مقال
و يضحك المصير على هذا المآل
طاح الليل –
الشاعر الجزائري توفيق ومان
المدخل العقلاني :
القصيدة ترتقي مدخل الدلالات الفكرية الواضحة ، التي تحتل معطيات فكرية وتجارب إنسانية وأدبية متوارثة كونت مقومات التناص لتحديد الدلالات والبحث ما وراء الكلمات .
البؤرة الاساسية الثابتة للنص):
من صفات النص الرصين المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية، احتوائه على ديناميكية الأفكار الإنسانية والوجودية حتى في الشكل البصري، فتلمس تلك محطة البؤرة الثابتة للنص سيكولوجية الكاتب الأدبية والفكرية, ونظرته نحو الاحداث والمجتمع ، تلك رسالة إنسانية يتميز بها الشعراء المحدثون كقاعدة لشعرهم ، حيث تشكل تلك النقطة مرتكزاً ثابتاً، و بؤرة لا يمكن تغيرها أو التلاعب فيها نقدياً، فهناك من يكتب للفقراء وهناك من يلاحق الظلم ..
وعلى الناقد المتمكن أن يصل كل محطة ويقف عندها، ومحاكاتها وإبرازها بشكل يستحق وقد تمركزت الشاعر في نصه ( طاح الليل على شيخي ) على رسالة إنسانية وبشاعة الواقع والحياة غير المستقرة ، اي /طاح الليل- يعني/ سقط الظلام/ يدعو بذلك إلى الترفع عن الروح الإنهزامية وعدم الاعتكاف الى حين يتبدّل الزمان والظرف ..فيحث شيخه بعدم الرضا على الواقع المزري .
شعر توفيق ومان أغلبه حسن تغلب عليه الحداثة والمعاصرة، وذلك ما يدل عليه هذا النص الذي أقدمه اليوم، مع إشارة إلى هذه القصيدة المعاصرة . على المعنيين عدم إهمال تدوينها، وعدم نقلها عن طريق المشافهة، مما يعرضها للزيادة والنقصان، وتغيير في كلماتها، لأنها تنتمي إلى انية عصرنا نعم، كذلك تتحدث عن قرون وليس الواقع فقط .. وتستحق التدوين بقوة،
من خلال مقولة تعبيرية
” يا شيخي ” بالإشارة الى
شيوخ “الحفاظة والخزانات” ابطال الملحون
من التلريخ والثورة ، وإذا انطلقنا من تصور مفاده أن الشعر موقف من الوجود، يصرفه الشاعر عبر لغة تعبيرية خاصة، فإنه من الحتمي القول بأن صدى الواقع بأفراحه وأتراحه وصراعاته ومآسيه وتقلباته يتردد داخل قصيدة هذا الملحون الشعري، ومن هذا الجانب نفهم مقولة توفيق ومان :
( يا شيخي راني
نحوس عليك
وين أرضك الخافية
رد السلامة )
ولا أريد أن أطيل في هذا المضمار، فقط أشير إلى أن قصيدة الملحون شعرية بامتياز، وشاعرها يسعى من خلالها إلى أن يرصد كل الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تمر بها الأمة الى مرجعية شعر الملحون ديوان الجزائريين بامتياز، ومن هنا نجد شاعر الملحون يرصد كل حركات الأمة وسكناتها والاخطار التي تحيط بها ، وكمثال على ذلك، قصيدة :
( طاح الليل، يا شيخي )
عنوان صارخ مؤلم وصيحة
لا يمكن لناقد او شاعر ومثقف ،أن يمر على حدث شعري كهذا مر الكرام، لأن الشاعر ، أدلى بدلوه وكأنه في المعركة بهذه القصيدة، التي بناها بناءً تعبيريا وصوريا كأنه مخرج تراجيديا يدير الصراع فيها .. كما في هذا المقطع:
( يا ناظم لبيات
تيجان فوق الهامة
داويلي حالي يا شيخي
يا رفيق التهامي
ملي وْطىَ سطحي
تحل حزامي
و رويت بالسْقام
و السحاب اللي كان
ورايا صبحْ قدامي )
استخدم الشاعر اللفظ ليكون حرا في عدد المفردات التي يتضمنها كل قسم من أقسام القصيدة، ثم يعود بعد ذلك ليختتم القسم الاخير بمفردات ايقاعية على وزن الحربة، لأن شاعرنا لم يتحرر من الوزن لفترة، ثم يعود له مرة أخرى داخل نفس القسم من القصيدة، والمحافظة على الإيقاع الداخلي، والرنة الموسيقية شيء ضروري لا مندوحة عنه، بالأسلوب السلس، والنظم جميل، وهو ما يكشف عن أن نوظيفه للغة المحكية ليس تحريفاً للفظ من السلاسة، حيث كتب قصائد عديدة تضمنتها دواوين،، ومن جاء بعده من الشعراء، تبعوه في ذلك، فكان أكثر النظم في هذه المرمة عبارة عن “امْتَرْجْمَاتْ” بعض الحكايات واهزوجات الإستقلال والنصر وغيرها،
وبعودتنا لموضوع القصيدة، نجد الشاعر قد افتتحه بتحديد شخصية في واجهة الإفصاح عن الشيخ ليكون شاهد على أحداث العصر في قصيدته،
(يا شيخي الليل راه طاح
و الصوت ما عاد براح
لا نيف لا صلاح
و الكلام ذاب بين للواح )
هذا واقع حال ، وان رجعنا المعجم يكون اتفسير كلير المعنى لكل كلمة هي تدخل في حفل الغام من المغرفية
المدخل البصري :
الغاية من توضيح الشكل أو التكوين البصري “البناء الفني والجمالي للقصيدة “
لم يعد خافياً ممن يعمل في حقل الأدب، من التجنيس الأدبي للنص:
إن النص الملحون الماثل بين أيدينا, والمعنون / طاح الليل يا شيخي / بمثابة عنوان برقي للأمة، هي قصيدة لم يغفل الشاعر عن ايقاعها وموسيقاها بل أخذا حيزا دلنا عليهما الشكل البصري للنص كذلك اتساق جمل النص والألفاظ والسياقات الشعرية الأخرى ، وظهرت انها قصيدة إنسانية وجدانية تحمل الهمّ الإنساني العربي ، وجودية تعبيرية، بمسحة فلسفية مالت إلى الرأي المعبر عن الروح الوطنية والقومية .
موسيقى النص :
حرص الشاعر الأستاذ توفيق في أثناء تأليف النص على موسيقى الألفاظ ، والموسيقى الداخلية لهذه القصيدة من الملحون المنسجمة مع مضمون النص …
أما المدخل اللساني
الذي يبحث في الدال والمدلول التركيبي البنيوي وتوابعة الاشتقاقية ، أي دراسة اللغة المحكية المكتوبة ،آن الألفاظ دلالاتها بالشعر الملحون، ان الشاعر نجح في استخدام الطريقة المهذبة التي يعشفها المتلقي ويتجاوب معها، لأن القصيدة خضعت لميكانيكية التميز في علم الكتابة والإملاء واللهجة في القراءة والتفسير الصوري للنص المكتوب وانه اختار الشاعر الألفاظ المحكية والفصيحة
المهذبة من قاموسه اللفظي الغزير نضدّه في قصيدته من غير إسفاف أو تكلف .
التكوين الجمالي والبلاغي :
هذا التكوين يتشكّل من خلال الجرس الموسيقي، واستخدام المحسنات البديعية ( جناس- سجع – تورية- حسن تقسيم – ترادف – اقتباس ) لتقوية المعنى، لنظيم إيقاع الجرس الموسيقي للقصيدة .
الملحون فن وإبداع شامخين، وهذا الشموخ الوازن يتيح للدارسين العديد من الإمكانات الممكنة تغنيه بالعديد من المقاربات والتلوينات في النقد ، واني تشوقت في ان اتناول حتى مفردات القصيدة ، ولكن اللهجات الغربية الماعددة فوتت الفرصة في فهم معاني بعض الكلمات مستغينا بالخبرة الفتية ، وقد فاتني الكثير ،لكني إستطعت الوقوف عند العديد من المحطات الأساسية التي اظهرتها القصيدة والتي هي بمثابة قيمة مضافة لإنتاج مبهر للشاعر توفيق ومان .. استطاع أن يدرك ماهية تصريف الذائقة الفنية ومعايشة الواقع بكل تفاصيله. اذ ذهب الى مرجعيته ، شيخة. لتصريف همومه فب قصيدة .. لتحقيق ميزة الدهشة الجمالية بمخيال متجوعر .. ويكفينا من خلال هذه المقاربة النقدية ، أن نتعرف أكثر على مجال خصب تتضمنه قصائد الشاعر توفيق ومان بإعتباره من الشعراء الكبار للملحون وأعني بما يصطلح عليه بالنقد الصامت ونعني “النقد الصامت”،تلك الإشارات النقدية والتنظيرية، والتي لايعلن الشاعر عنها مستقلة وواضحة، ولكن تأتي بها بين ثنايا قصيدته، ومن خلالها نكتشف ميولات المبدعين ، والتي لايعلنون عنها جهارا في مقالات او رؤى متفردة ، ولكن صراع الواقع مع قوى الظلام ، يفرض على الناقد ، ان يعلن الحقيقة من خلال نص وشاعر …
النتيجة : غلبة دلالات عديدة ما يشير إلى أن الشاعر في هذا النص مستقر في حقل إبداعه بكناية دلالات الحكمة في الطرح الموضوعي ،
بحكم أن الشاعر فكره عريق ،ويبحث في الواقع والماضي القريب والحالي والقصيدة وجدانية حزينة يغشيها الهم الإنساني والحسرة والحيرة، وهي رسالة إنسانية تدعو إلى نبذ الظلم والأضطهاد وما ابتليت بهما البلدان العربية من ويلات .
إن النص الشعري المتكامل بكل اشكاله لا يقبل التفكيك المستمر الذي يشظّي النص، بل ويخلق فيه الشروخ والتناقضات وحاشى لهذا النص الملحون أن يصبح متناقضاً في ذاته ، وهو في خالة سمو ..
ومن هنا جاءت قصيدة ( طاح الليل يا شيخي ) تحفظ النص العربي
الملحون بشكله ، وتربط ماضيه وحاضره ومضمونه، وتنأى به بعيدأ عن الشروخ والتناقض ..تقديري .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى