الهندي في مجموعته القصصية” فاطمة حتى التعب” الفلسطيني التائه
✍️سليم النجار :
يرتبط فن القصة القصيرة بالزمن ارتباطا عميقا، يصل حد التماهي
الكامل بين مكنونات القاص هاني الهندي والعالم الخارجي لفضاء قصصه، فهو يظهر الاستخدام المكثف لصور الزمن في القصة الواحدة ؛حيث يتلاحم الماضي مع الحاضر والمستقبل في بنية زمنية متماسكة، تعبر عن اجتياز القص لبنى الزمان المتقطعة، محاولة لدمجها معا واستحضار زمن مختلف مبني على ظاهرة الفلسطيني التائه الموسوم بالرؤيا، والخارج عن الزمن المحدود، الكاشف عن مناطق مجهولة، وغائرة في البعد التي كلما حاولنا أن نسبر ملامحها تتبثق دلالات وعلامات أخرى أكثر ملامسة للقاص ومناخاته الاجتماعية المتعددة، كما أن الصورة القصصية تتوقد حيويتها في ضوء ما نحمله من إيحاء فاعل بين أشياء المكان وصور الزمن، وبما أن الصورة القصصية -بوصفها جمرة ملتهبة منالدلالات والتحولات في الذهن، والمدمرة لقضية الزمن الجامد، كما نكتشفها في المجموعة القصصية ” فاطمة حتى التعب” التي صدرت حديثاً.
وبناء على الربط بين القاص وشبكة العلاقات الموجودة في الفضاء الزمني الفلسطيني المتنقل في أماكن مختلفة ومتنوعة، تتكون صياغة الصور فكريا وعاطفيا،( لا أدري لماذا خطر ببالي هذا الشريط من الذكريات وأنا أرقد على السرير في أحد مشافي عمان، ربما لأنني تذكرت الطبيب عندما قال لي أن السكري مرض صديق المريض، ابتسمت،( هه٠٠ قال صديق قال)، وهل يفعل الصديق بصديقه ما فعله معي هذا الصديق ؟! ص١٨)٠
تمثل الصورة القصصية ركنا أساسيا مهما في تكوين النص القصصي، وتأسيس تجربة إبداعية مختلفة في صياغتها للصور والظواهر المتعددة في العالم الخارجي، فهي تقوم بنقل اللغة من صفتها الاجتماعية المتداولة إلى لغة مرتكزة إلى العلاقة بين الأشياء المرئية واللامرئية والحسية واللاحسية،( وقبل أن ينتصف اليوم الثاني من الحصاد، سمع الفلاحون أصوات الرعيان بهرولون نحوهم ويصرخون : يهود ٠٠٠٠ يهود ٠٠٠ يهود ص٢٥)٠
إن خلق صور عديدة للتحاور الذي يقوم على إدراك صور التعبير الحسية والمتخيلة، فأول عملية للمتلقي عند استقبال النص هي الاستماع بالصور القصصية المحسوسة اعتمادا على مرجعيته الواقعية في تحسس الأشياء من حوله، ثم تأتي العملية الأخرى المتمثلة في ترجمة الصور الرؤيوية اللامرئية التي تحتاج إلى فك العلائق المتشابكة بين عناصر النص المعنى الخفي للصورة القصصية باعتبار أن اللغة الإنسانية شبكة من العلامات الدالة وامتلاك المعنى،( لم تنشف دموع النساء مذ داهمت قوات الدرك العثمانية القرية بحثاً عن شبابها، وساقتهم إلى حرب لا علاقة لهم بها، إلا إنهم وقودها، خرجت يومها القرية تودعهم بدموع النائحات وزفرات الأباء وهم يبتعدون ٠٠ وبعد أسبوع صلى عليهم صلاة الغائب ص٣٤)٠
ونتيجة للاشتباك بين المشهد المادي والمشهد المتخيل تتكون الصورة القصصية انعكاسا لما يحدث في الفضاء الاجتماعي في قصص ” فاطمة حتى التعب” والفضاء الحلمي، ومدى حضور صورة فاطمة في قصص القاص هاني الهندي وقوة الحدس لديه، حيث يتم التزواج بين الصورتين في النص الواحد: الصورة الرؤية والرؤيا ؛ إذ الرؤية حالة من المشاهد الواقعية مؤسسها آليات العين،( بعد سنتين، كان جبر في شوارع مخيم الوحدات ومخيم الحسين يصفق بيديه ويجمع علب السجاير الفارغة من الشوارع ويدسها في جبيه، وفجأة يصرخ (تلو٠٠ تلو) ويهرول مسرعاً في الشوارع ص٥٦)، أما الرؤيا حالة من المشاهد الحلمية ترتبها آليات من القلب فاقصة التي تقتصر على الوصف، التصويري للحبكة القصصية، أو على سرد الأحداث والمجريات، ويكاد لا يعدو نطاق الرؤية.بينما الكشف عن عوالم الخارجة عن النطاق المرئي يشكل مفهوما آخر للتصوير، وهو التصوير اللافيزيقي الذي يعبر عن الحالة الإنسانية المتصدعة والمتشظية في الزمن، وحضور الشخصيات وغيابها، يمكن اعتبارها الرؤيا،( قال أحدهم: أخرجوا الجثّة، هذا الميت لم بدفع ٢٥٠ دينارا ثمن القبر
وآخر قال: لم يدفع ضريبة مسقفات عن الخيمة التي عاش فيها
وقال آخر: أخرجوه، فهو مقبوض عليه بتهمة إدارة خلية من الموتى٠
وضعوا جثّتي في سيارة الشرطة، صرخت عجلاتها، أما روحي مازالت تحوم٠٠ تحوم، تعانق فاطمة ص٦٦)٠
في المقابل ترتبط الصورة الفنية الرؤيوية ذات البعد الزمني المفتوح بقدرة القاص على تكوين القص المتخيل الذي يشبه الحلم عبر صورة محددة، أو وصف بذاته، تذهب إلى شبكة مترامية من العلامات الدالة حول المعنى الذي ذهب إليه القاص هاني الهندي، في قص معاناة الشعب الفلسطيني، من خلال فاطمة التي تشكلت بنيتها الحياتية من تعب، فصورتها تتوقد حيويتها في ضوء ما تحمله من إيحاء فاعل بين أشياء المكان وصور الزمن القصصي الفلسطيني، الذي يضم تحت لوائه المدركات الحسية والنفسية التي تعمل في سبيل رسم مشهد قصصي فاضح ومؤلم، لهذا الزمن٠
فاطمة حتى التعب هي مرآة للعلاقة الصوتية في تكوينها نتيجة الظروف النفسية التي يكنها القاص في اعماقه٠ وعلى هذا فإن مجموعة هاني الهندي القصصية( فاطمة حتى التعب)، تتشكل من إيقاع إجتماعي، وأن الإيقاع الاجتماعي ليس شيئا عرضيا أو زينة خارجية يمكن تركها بسهولة٠ فهو الصورة الكاملة لعمق التجربة القصصية وتوافقها مع الحضور الزمني٠
” فاطمة حتى التعب”، كانت صورة تاريخية اجتماعية، كتبها القاص الهندي كلوحات مرئية شكلت قالبا قصصيا، وبناء صوتي ومعنوي، له علاقة بالتاريخ والجغرافيا، وكان المكان سيد الحضور في النص القصصي، وتعب من فاطمة حتى التعب٠