“حدث في الآستانة” للمترجم أُسَيْد الحوتري
✍️ هارون الصبيحي :
عن دار الآن ناشرون وموزعون صدرت حديثاً ترجمة مختارات قصصية من الأدب التركي الحديث إلى اللغة العربية تحمل اسم “حدث في الآستانة” من اختيار وترجمة أسيد الحوتري. تتكون المجموعة من إحدى عشر قصة قصيرة لتسعة من الأدباء الأتراك المخضرمين الذين ولدوا في الإمبراطورية العثمانية وعايشوا سقوطها وشهدوا تأسيس الجمهورية التركية وعاشوا فيها حتى وفاتهم. تأخذ هذه الباقة القصصية القارئ في رحلة إلى أجواء عثمانية تعبق بالتقبُّل والتّسامح قبل وقوع انقلاب جمعية الاتّحاد والترقي وحركة تركيا الفُتاة على السلطان عبد الحميد الثاني. كان هذا التسامح أحد أهم الثيمات التي تطرقت لها المجموعة. كما وتظهر ثيمات أخرى متعددة: اجتماعية واقتصادية وسياسية وفلسفية في نفس المجموعة. من جانب آخر يمكن وصف هذه المختارات القصصية التي جمعها الحوتري لتصف فترة زمنية مفصلية في كتاب واحد بالرواية الكولاجية، رواية “قص ولصق”، رواية ما بعد حداثية بطلها الزمن المفصلي بين عهدين وهو عامل مشترك في جميع القصص حاله كحال المكان الذي كان في الغالب مدينة إسطنبول .
امتاز هذا العمل المترجم بتقديمه نبذة عن حياة كل قاصّ ونتاجاته الأدبية قبل بداية كل قصة، بالإضافة إلى مقطع قصير مشوّق من القصة. هذا وقد تميز الكتاب بمقدمة وازنة كتبها الحوتري وسرد فيها أهم ملامح الإمبراطورية العثمانية قبل وبعد الانقلاب العسكري الذي قامت به جمعية الاتّحاد والترقي وحركة تركيا الفُتاة،ثم الزج بالدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى من قبل الباشوات الثلاث وعلى رأسهم أنور باشا مما أدى إلى سقوط الدولة العثمانية.
سأتطرق في هذه المقالة إلى جميع القصص المختارة محاولاً تحليلها أدبياً والتعبير عن رأيي بها بإيجاز.
.
القصة الأولى: “بون بون” لأحمد راسم (1864 – 1932)
تروي حكاية طفل أرمني يرافق والدته على ظهر عبّارة. نلاحظ في هذه القصة براعة الكاتب في وصف التفاصيل الدقيقة للأم التي تضع شبكة سوداء ضيقّة الفتحات على وجهها، “رأيت وجهها في آخر مرة قامت بها برفع الشبكة، لابد أنها بكت كثيراً، وعانت من أرقٍ متواصل لأن زوايا عينيها السّوداوين كانت متقرّحة، أنفها يشبه منقار النسر…عنقها أنحف مما عليه جسمها… يديها كانتا قبيحتين ولكن ماهرتين، لم تكونا كبيرتين بل نحيفيتين وطويلتين، ذواتي عروق زرقاء كثيرة، بجانب رأس إبهام يدها اليمنى نتوء كمسمار اللحم…”، أما الطفل فيصفه الكاتب كما يلي: “شعر أشقر ناعم وطويل، خديه كانا أحمرين كالدّم، عينيه كانتا صافيتين، أنف صغير بحجم حبّة التمر، أسنان لؤلؤية، رقبة كالقشدة…”. القصة بسيطة يشاكس فيها الطفل أمه ببراءة ممتعة للقارئ، نهايتها تكشف عن فلسفة في الحوار بين الطفل والأم.
.
القصة الثانية: “الإسكافي” لرفيق خالد كراي (1888 – 1965)
هي قصة طفل فلسطيني يتيم الأب ولد في إسطنبول، وبعد وفاة والدته يتم ترحيله ليعيش مع عمته في فلسطين، في هذا القصة يوظف الكاتب العاطفة ببراعة من خلال سرد حافل بالمشاعر المتدفقة. حديث الطفل حسن مع الإسكافيّ المتجول داخل بيت عمته يؤجج المشاعر وينتهي ببكاء الطفل والإسكافي معا. برع الكاتب في الوصف والسرد وتوظيف العاطفة لينتج قصة جميلة تستحق التأمل.
.
القصة الثالثة: “تأثير الحزام” لعمر سيف الدين (1884- 1920)
وهي قصة رجل تركي يقلد الشركس، ويفتخر بذلك. تسلط القصة الضوء على أجواء التسامح والتعايش التي كانت تسود الدولة العثمانية قبل انقلاب جمعية الاتحاد والترقي. فكرة النص ذكية، عالجها الكاتب ببراعة من خلال سرد سلس تخلله الحوار.
.
القصة الرابعة: “التمثيل الصامت” لسامي باشازاده سيزائي (1859 – 1936)
تسرد هذه القصة حكاية (باسكال) الممثل اليوناني العثماني الذي امتهن إضحاك الجماهير من خلال مسرحيات صامتة. يضحك (باسكال) الناس ولكنه يعيش مأساة داخلية لايعرفها أحد. تكتمل المأساة بعشقه لفتاة تتردد إلى المسرح لتضحك على حركاته وشقلباته. أبدع الكاتب في السرد والوصف وتوظيف الخيال والتشويق وكذلك في تصوير البعد النفسي لشخصية باسكال، وفي النهاية الفلسفية الرائعة.
.
القصة الخامسة: “الجمل” لعمر سيف الدين (1884 – 1920)
وهي قصة غجري من مدينة (أدرنة) قرر التمرد على واقعه من خلال السفر إلى إسطنبول للتخلص من حياة الغجر البائسة. نلاحظ هنا رشاقة أسلوب الكاتب حيث سافر بنا مع الشخصية من مجتمع إلى مجتمع مختلف بسلاسة إلى أن بلغت الذروة التي أعقبها سقوط وعودة. كذلك أبدع القاص في نقل القارئ إلى جو النص من خلال الوصف الفلسفي الساخر.
.
القصة السادسة: “ما أجمل الحياة” لممدوح شوكت أساندال (1883 – 1952)
قصة فلسفية تصور بساطة الحياة من خلال يوم عادي في حياة نوري أفندي الشخصية الرئيسة في القصة. للوهلة الأولى يبدو أنه لا حدث ولا تأزم أو ذروة في القصة، لكن هذا هو الواقع أحياناً، وقد يكون ذلك ضياعاً أو هروباً من تعقيدات الحياة، هي فلسفة جميلة متفائلة، “الحياة، يا لها من شيء جميل”.
القصة السابعة: “الخبز أولاً” لأورخان كمال (1914- 1970)
قصة اجتماعية واقعية تحدث في كل زمان ومكان، تسلط الضوء على الفقر من خلال حياة عائلة تركية، الخبز أولاً وقبل التعليم. كانت تطمح الفتاة (آيتن) أن تكمل دراستها لتصبح طبيبة. نجح القاص بربط حياة العائلة الصعبة من خلال علاقة (آيتن) بالجارة الجدة هديّة. سرد جميل استخدم القاص فيه مفردات وضعها في سياق منحها دلالات إضافية.
.
القصة الثامنة: “منديل الحرير” لسعيد فائق – (1906 – 1954)
نلاحظ في هذا القصة البداية الوصفية للمكان مع الإشارة للزمان “تلألأت واجهة مصنع الحرير بضوء القمر” وتبعتها البداية الحوارية. قدم القاص مفارقة لطيفة من خلال شخصية الحارس البديل الذي قبض على اللص الصغير ثم جلسا معاً يدخنان ويتحدثان بلطف. قصة حافلة بالمشاعر تقود القارئ إلى نهاية صادمة.
.
القصة التاسعة: “السّماور” لسعيد فائق – (1906- 1954)
السّماور هو وعاء معدني يستخدم لغلي الماء وتحضير الشاي، أبدع الكاتب في التشبيه في أكثر من موضع بالقصة، “شبّه علي السّماور بمصنع خال من المعاناة، والإضراب وإصابات العمل، مصنع لاينتج إلا الرائحة والبخار وبهجة الصباح” وكذلك في عذوبة الألفاظ، “قبّل علي يد والدته ثم لعق شفتيه وكأنه قد أكل قطعة من الحلوى”. قصة رائعة ربط فيها القاص بين الجماد والمحبة والألم والأمل والأم.
.
القصة العاشرة: “الرّبيع” لأحمد حكمت مفتو أوغلو – (1870 – 1927)
قصة رمزية تعبر عن حزن القاص الشديد على ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد من خراب وتحوُّل مؤلم بعد ربيع وعدت به جمعية الاتحاد والترقي التي كان شعارها: الأخوة، الحرّية، المساوة، وحركة تركيا الفُتاة. هذا الربيع الذي كان منشوداً بعد الانقلاب، لكن فيما بعد تبين أنه المسمار الأخير الذي دُق في نعش الدولة العثمانية. وفّق القاص في وصف حال الدولة من خلال الرمزية والتشبيه. استهل الكاتب القصة بجملة “افتحوا النوافذ للربيع” وفي النهاية “كان لدي حبيبة، زوجتي، وأطفال جميلون وأصحاء، لم يٌقدّر والدي وزوجته قيمة محبوبتي، قضت نحبها، ومن بعدها أطفالي، ضاعت ثروتي، ها أنا قد انتهيت، ربيع! ربيع!” قصة معبرة ورائعة نجح الكاتب عبر تكثيف متقن بإيصال رسالته للقارئ.
.
القصة الحادية عشرة “الحُب الأعمى” لنجدت صانتشار (1910- 1975)
هي أروع قصص المجموعة، قصة تصوّر حال الجمهورية التركية التي اختلف كثيراً عن الإمبراطورية العثمانية، من خلال تغييرات جذرية أبعدتها عن رسالتها وعادات وقيم الشعب التركي التي حملها ودافع عنها مئات السنين، تحمل القصة نفساً قومياً ودينيا يدعو إلى العودة للعادات والتقاليد والقيم التُّركية الأصيلة ونصرة الإسلام بعيداً عن التماهي مع الغرب. يستهل الكاتب القصة بكلمات شاعرية مشوّقة تخاطب المجهول “اسألني عن الحبّ الأعمى، إنه النار في بعض الأحيان، يصلي، يحرق، ولكنه النور أحياناً أخرى” براعة الكاتب في ربط البداية بالنهاية، قصة أربعة أصدقاء عاشوا الحب الأعمى، “الحب الأعمى أمر مخيف” جملة كررها الكاتب في النص، وهنا يكون التكرار إبداعاً. تفنن الكاتب في اختيار الألفاظ ووضعها في السياق، فكانت دقيقة الدلالة، أثرت في النفس الدرامي وشحن القارئ ووخزه لتصل في النهاية إلى إيقاظ مزلزل.
.
في الختام تفوق المترجم الحوتري على نفسه فقدم ترجمة سلسة لا تفوح منها رائحة الترجمة، مع ذلك فقد حافظت على الأسلوب الخاص لكل قاص. كما وُفق في اختيار جميع القصص التي جمعت بينها ثيمات مشتركة شكّلت في النهاية رواية كولاجية “قص ولصق” ما بعد حداثية بطلها هو الزمكانية والتي تمثّل الزمان فيها بالفترة الانتقالية بين عهد الدولة العثمانية وعهد الجمهورية التركية، أما المكان فكان الأراضي العثمانية – التركية، وفي الغالب مدينة إسطنبول .