في يوم 18 جوان 1845 ارتكب الاستعمار الفرنسي إحدى أكبر جرائمه ضد الإنسانية في الجزائر. وكان قادة الجيش الفرنسي السباقين في تاريخ الحروب في ابتكار ”غرف الحرق والإبادة الجماعية” وما أصبح يسمى بعد الحرب العالمية الثاني بـ”المحارق”، التي تصنف كجريمة شنعاء في تاريخ البشرية لما في حيثياتها من إذلال للإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وجعله في أحسن خلقة
إذ أمر الجنرال بيجو العقيد بيليسي بملاحقة عرش أولاد رياح، الذين قاوموا الغزو الاستعماري، فقام العقيد بـ”بساطة” بإبادة قبيلة أولاد رياح، التي فرت في حالة هلع وفزع من بطش جيوش المستعمر الفرنسي تبحث عن مكان آمن، فلجأت إلى مغارة الفراشيح بدوابها وأنعامها، والقليل من الزاد والماء.
المغارة التي تقع في أسفل مرتفع جبلي وعر بمنطقة الظهرة، بمنطقة نقمارية الواقعة شرق مستغانم، على بعد 80 كلم. فقام السفاح بيليسي بغلق وسد كل منافذ المغارة بالحطب والقش والتبن وصب الكبريت، ثم أضرم النار التي بقي لهيبه مشتعلا لمدة 24 ساعة. والنتيجة إبادة جماعية لقبيلة كاملة يتجاوز تعددها 1200 نسمة.
الفعل الإجرامي الذي حاول الاستعمار الفرنسي التستر عليه بشتى الطرق والوسائل، وصوّره على أنه حادث حرب عابر للتقليل من حجم الجريمة، التي تعد من أكبر وأفظع جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر على مدى 132 سنة من التواجد.
محرقة أولاد رباح جريمة ضـد الانسانية
سيبقى يبرز حقائق موضوعية عن أحداث ومحارق جرت وقائعها المؤلمة في سنة 1845 بدوار أولاد رياح ببلدية النقمارية، وفي ذلك العام، وقبل ثورة التحرير بحوالي قرن من الزمن، أقدمت القوات الاستعمارية بقيادة الجنرال بليسي السفاح على جريمة لاإنسانية خطيرة ظلت طيّ الكتمان، وهي محارق في كل من النقمارية وأولاد رياح، وحسبما تداول عن هذه المعارك أن القوات الاستعمارية الجنرال بليسي كان وراء كل أنواع التعذيب التي حدثت في المنطقة ومنها ثلاث محارق في النقمارية وأولاد رياح، حيث تم حشد مئات المواطنين في شهر أوت من سنة 1845م داخل مغارات وكهوف تحت الأرض وبعد الغلق عليهم بالإسمنت المسلح تم إبادة أكثر من 1000 مواطن (رجال ونساء وشيوخ وأطفال) عن طريق المحارق وكل هذه الإبادة الجماعية هي رد فعل على إنطلاق مقاومة شعبية من طرف السكان الذين لم يتقبلوا وجود قوات الإستعمار بمنطقتهم. وكان الباحث والمؤرخ عمار بلخوجة، قد أنجز بحثا تاريخيا حول هول هذه المحارق التي وقعت في الظهرة التي تعدّ من أبرز الجرائم ضد الإنسانية، وكانت فرنسا قد تكتمت عليها طيلة تواجدها بالجزائر. وإلى اليوم ورغم مرور174 سنة على وقوعها لايزال مكانها بدوار أولاد رياح والنقمارية يشهد على مدى بشاعة تلك المحارق التي كان مواطنون جزائريون من الأطفال والنساء وقودا لها، أحرقوا أحياءا داخل كهوف ومغارات عميقة. ولايزال سكان مناطق الظهرة يتذكرون أبا عن جد وعبر الأجيال هول ما حدث قبل إندلاع مختلف المقاومات الشعبية وثورة حرب التحرير
مجزرة الفراشيش في جوان 1854 الإبادة المبرمجة
لا يمكن الكشف والحديث عن الحركة الاستعمارية في الجزائر دون التطرق و الحديث عن المجرمين الذين عاثوا في أرض الجزائر فسادا خاصة خلال النصف الثاني من القرن 19 على غرار كل من بيليسيي، كافينياك، سانت آرنو وغيرهم من السفاحين الذين اعتمدوا سياسة الأرض المحروقة حيث لا يقل هؤلاء مسؤولية عن مجرمي الحرب العالمية الثانية التي دارت ما بين 1939 إلى 1945 أمثال أدولف هيتلر، قورينغ هيرمان، هينريتش هيملر دون نسيان ما ارتكبه الصهاينة آرييل شارون، رافياييل هيتان وعموس يارون وغيرهم في صبرة وشتيلة ذات عام 1982 وأقرب منا ما اقترفته الصهيونية تزيبي ليفني ، يهود باراك ، يعلون وآفي ديشتار وغيرهم من الذين ارتكبوا جرائم الحرب ضد الشعب الغزاوي الأعزل ما بين 27 ديسمبر و18 جانفي 2009 كل هؤلاء وغيرهم يصنفون في خانة مرتكبي المجازر ضد الإنسانية حيث بات التاريخ والمحاكم الدولية تطاردهم حتى في قبورهم وكيف لا بعد التصريح الذي أدلى به المجرم بيليسيي ذات عام 1845 عندما ارتكب مجزرته الدنيئة في حق مواطني أولاد رياح حيث قال : “جلد واحد من طبل عسكري مجند في الجيش الفرنسي أغلى من 1000 جلد من الذين أحرقوا في مغارة الفراشيش”
بهذه العبارات الحاقدة يطوي الكولونال بيليسيي ملف المجزرة التي تفنن في صنعها بمغارة ” الفراشيش” هذه المغارة التي دخلت تاريخ الجزائر صدفة تقع في منطقة الظهرة المتواجدة شرق ولاية مستغانم والتي تبعد عن مقر الولاية الأم بحوالي 115 كلم ارتكبت في ذات المغارة المذكورة أبشع المجازر ذات أيام 19 و20 من شهر جوان 1854، إلا أنه وللأسف لم تكن هذه هي المجزرة الأولى التي دونها العسكر الفرنسي في سجلاته بل ألف عليها حيث سبقتها مجازر أخرى كان بطلها آنذاك المارشال ” بيجو ” الذي قضى وبصفة كلية على القوات المغربية التي كان يقودها سيدي محمد عبد الرحمان في 14 أوت 1844 في معركة “إسلي” نسبة إلى تلك المنطقة التي تقع في الجهة الشرقية لمدينة وجدة، ففي الوقت الذي كانت هذه الحرب تدور رحاها بين جيش ملك المغرب والجيش الفرنسي كان الأمير عبد القادر متواجدا بالأراضي المغربية وقد لجأ إليها في تلك الفترة بعد ما انهزم جيشه في معركة الزمالة شهر ماي من سنة 1843 أمام قوات الدوق دومال ابن ملك فرنسا آنذاك جرت هذه المعركة كانت بمنطقة “طاقين” الواقعة جنوب شرق مدينة قصر الشلالة حيث تصارع الجيشان بكل قوة وشراسة إلا أن التفوق كان حليف الفرنسيين الذي تمكنوا من أسر حوالي 3000 شخص إضافة إلى إستلائهم على المؤن والذخائر بما فيها المكتبة الخاصة للأمير إن هذه الإنتصارات التي بات يحققها الجيش الفرنسي من الفينة للأخرى أضيفت إلى أرصدة قادته العسكريين حيث توهموا على أنهم وضعوا بهذا حدا نهائيا للمقاومة الشعبية في كل من الجزائر والمغرب ، إلا أن هذه التخمينات والحسابات سقطت وخابت بمجرد ما اشتعلت مقاومة جديدة في أفريل 1845 على يد الشاب بومعزة في منطقة الظهرة . مقاومة بومعزة تلقى الشاب بومعزة الدعم الكامل من قبيلة أولاد رياح حيث تمكن و بفضلها من هزم قبيلة سنجاس العميلة والموالية للفرنسيين كما تمكن في نفس الوقت من القضاء على الآغا الذي نصبته الإدارة العسكرية الفرنسية على المنطقة جزاء لما قدمه من خدمات جليلة لها في أوقات سابقة، عرف الشاب بومعزة كيف يوسع من رقعة انتفاضته الشعبية ما اقلق كثيرا الجنرال بيجو إلى درجة أنه قرر وضع إستراتجية خاصة بهدف القضاء عليها فبعث خمس قوافل عسكرية إلى المنطقة لتوزع عند وصولها عبر مختلف مناطق الظهرة لمحاصرتها وتوجيهها بالدرجة الأولى خاصة إلى تلك المناطق التي امتدت إليها نار المقاومة ولإنجاح خطته استنجد بكل من الجنرال ” آبوفيل ” قائد قافلة سطيف والجنرال “ماري” قائد قافلة المدية أما القوافل الثلاثة فهي تلك القوافل التي كانت متمركزة بمنطقة ” الأصنام” سابقا شلف حاليا حيث كان يقودها كل من الكولونيل “لادميرو” و”سانت آرنو” إلى جانب الكولونيل “بيليسيي” وبهذا الحشد الكبير يكون الجنرال بيجو قد جند خمس قوافل عسكرية ضخمة للقضاء علىمقاومة بومعزة الشعبية:
كان الكولونيل بيليسيي على رأس قافلة عسكرية ضخمة تتحرك بخطى ثابتة حيث كانت متكونة من 4000 عسكري مدعمة ب 200 ڤومي (قوم هي تلك المجموعات من أهالي المنطقة التي جعلت منها القوات الفرنسية قوات إضافية أو تابعة لها تسخرها عند كل معركة مع بني جلدتها مقابل أموال أو امتيازات) حيث وجهت هذه القوة العسكرية الكبيرة إلى المنطقة التي يقطنها أولاد رياح بهدف اخضاعها وقهرها ومن ثمة إنهاء تمردها حيث وضع الكولونيل بيليسيي نصب أعينه الوصية التي تركها الجنرال بيجو له ولبقية الضباط الفرنسيين ذات يوم 11 جوان 1845 عندما كانوا يتهيأون للرحيل انطلاقا من مدينة “أورليان فيل” حيث قال لهم ” في حال رفض هؤلاء السراق الخروج من المغارات لكم أن تفعلوا ما فعله “كافينياك ” الذي تجرأ ودون تردد على حرق قبيلة [ سبيحا ] لهذا يستوجب عليكم أنتم كذلك حرق هؤلاء كالذئاب” .
عشية انطلاق هذه القوافل العسكرية وخروجها من ثكنتها تحركت وحدة استطلاعية يوم 17 جوان من ثكنات مدينة ” أورليان فيل ” سابقا مدينة (الشلف حاليا) حيث جابت الجهة اليسرى من وادي جراح وراحت تقطع كل أشجار التين كما تعمدت حرق المنازل والمحاصيل الزراعية ما دفع بأهالي أولاد رياح ولتوقيف هذا الإعتداء الهمجي والإجرامي قاموا بمهاجمة هذه الوحدة الاستطلاعية وهكذا دارت مناوشات بينهما تراجع على إثرها المهاجمون واختاروا الاختباء داخل مغارة محاذية لوادي “الفراشيش” هذه المغارة التي تمتد على طول 200 م وهي محفورة في مادة الجير لا الكلس وتتميز بظلام دامس والرطوبة كبيرة.
خلال هذه الفترة كانت القافلة العسكرية التي يقودها الكولونيل بيليسيي قد غادرت ثكنة ” أورليان فيل ” شلف حاليا متجهة نحو النقطة التي حددت لها ضمن إستراتجية بيجو وهي منطقة أولاد رياح المتاخمة لجبال الظهرة حيث مارست خلال مشوارها وعبر المناطق التي مرت بها سياسة الترهيب بعدما شرعت في تسليط سياسة الأرض المحروقة على الأهالي أين باشرت في تطبيق برنامجها التقتيلي والتخريبي وهذا كلما اصطدمت بأراضي زراعية أو أهالي عزل على غرار قبيلة ” بني زنطيس ” حيث عند رؤية سكان القبيلة هذه القافلة الطويلة والكبيرة المحملة بأعتى الأسلحة الدفاعية والهجومية أسرعت النساء والأطفال وكذا الشيوخ للاختباء داخل مغارة الفراشيش حاملين معهم كل أمتعتهم ومؤونتهم وحيواناتهم من حمير وبغال وكذا الخيول ، هذه المغارة التي تعود سكان أولاد رياح الهروب إليها كانت عبارة عن ملجأ لحمايتهم من تسلط الجيش العثماني على الأهالي حيث كان يطل عليهم إلا في موسم الحصاد لأخذ محاصيلهم الزراعية كما كان يجمع الضرائب التي يفرضها عليهم إضافة إلى إرغامهم على مد الإتاوات طواعية مستعملين في سياستهم حتى أسلوب السلب والنهب
أما العامل الثاني الذي كان يدفع أولاد رياح الهروب إلى المغارة هي تلك المعتقدات التي كانت سائدة آنذاك والتي تقوم على خرافة أن هذه المغارة تعد بمثابة البرج الحصين الذي يبعد الأخطار عن من بداخله لسببين أولهما ارتفاعها عن الوادي بحوالي 80م من جهة وثانيها أنها مكسوة بأشجار العرعار أما العامل الثالث الذي كان يدفع الناس اللجوء إلى المغارة يندرج في خانة المعتقدات الشعبية والقائلة على أن المكان مقدس يحميه أحد الرجال الصالحين ببركاته . كل هذه المعتقدات والروايات لم تظهر لأهالي أولاد رياح الأخطار التي كانت تحدق بهم كما كانوا في هذه اللحظة يجهلون المصير المحتوم الذي سيلاقونه داخل هذه المغارة لأنهم لم يكونوا يتصورون ولو للحظة الحقد والكراهية التي كان هؤلاء الأوربيون وفي مقدمتهم بيليسيي يحملونه لهم في قلوبهم وهم يقرعون طبول الحرب .
خلال صبيحة يوم 18جوان 1845 طوق الجيش الفرنسي المغارة بعدما عجز عن اقتحامها بسبب الطلقات النارية التي كان يطلقها المجاهدون المتواجدون بداخلها فأعطى بيليسيي أمرا للمدفعية بقنبلة المغارة حتى يستسلم من بداخلها وعند عجزه عن تحقيق ذلك تمركزت قواته حول مداخل المغارة إلى غاية اليوم الموالي أي يوم 19جوان 1845 وفي حدود الساعة العاشرة صباحا طلب بيليسيي من جيشه قطع الحطب من الأشجار المتناثرة هنا وهناك في المنطقة ومن ثمة جمع القش الذي كان متواجدا بكثرة في الحقول حيث أن شهر جوان هو موسم الحصاد وبعد جمع كل ما طلبه أمر بوضع الخشب على شكل رزم ووضعها عند مداخل المغارة الشمالية والجنوبية عندها أمر بإضرام النار على هذه الحزم الخشبية التي كانت في نفس الوقت محفوفة بالقش ، يقول الضابط الإسباني الذي كان شاهدا على الحادثة في الرسالة التي بعثها إلى الجريدة “المدريلانية هيرالدو Le Madrilène Héraldo “… إن النار أبت في البداية أن تشتعل بسبب المياه التي كانت تغمر مدخل المغارة وفي حدود الساعة الواحدة مساء يواصل قائلا بدأنا برمي أمام المدخلين حزم أخرى من الحطب حينها اشتعلت النيران و من الصدف يقول أن بدأت الرياح تنقل الدخان إلى داخل المغارة … مما كان يسمح للعساكر بدفع الحزم من الحطب إلى داخل فتحاتها تماما كما يحدث بداخل الفرن ” في نفس السياق وجه أحد الجنود الفرنسيين رسالة إلى عائلته يقول فيها بالنسبة لهذه الليلة المشئومة على أنه ” …. أبقيت النار مشتعلة خلال طول الليل … وعلى ضوء ألسنتها كنا نشاهد الوحدة العسكرية التي كانت مكلفة بالحفاظ عليها ، كنا نسمع صيحات الرجال والنساء والحيوانات وكذا تصدع وتكسر الصخور المتفحمة التي كانت تسقط داخل المغارة بفعل ارتفاع درجة الحرارة .
” للعلم كانت هذه المأمورية تجري تحت حراسة مشددة للضباط الفرنسيين الذين شددوا على مواصلة اشتعال النار ودون انقطاع لمدة ثمانية عشر ساعة حيث بدأت المحرقة في الساعة الواحدة مساء من يوم 19 جوان لتنتهي على الساعة السادسة صباحا من يوم 20 من نفس الشهر.
مطالب أولاد رياح للجنرال بيليسيي :
في يوم 20 جوان 1845 وفي ظل المحرقة التي سلطت على أولاد رياح بمغارة الفراشيش تضاربت الآراء والقراءات حول ما حدث في هذا اليوم حيث توجد عدة قراءات منها قراءتين يمكن اعتبارهما أكثر مصداقية من البقية لذلك نسردها في ما يلي :
بالنسبة للأولى تقول على أنه في صبيحة يوم 20 جوان وعلى الساعة التاسعة صباحا خرج البعض من الرجال من المغارة التي كانت تلتهمها ألسنة النيران حيث قدمت اقتراحا للجنرال بيليسيي تمثل في قبولها دفع ما قيمته 75.000 فرنك فرنسي مقابل انسحاب جيشه من المنطقة إلا أن هذا الأخير رفض هذا الطلب واعتبره شرطا غير مقبول وعندها عاد الرجال إلى المغارة وبدل البحث عن صيغة أخرى لحل المأساة أمر هذا القائد الفرنسي وفي حدود الساعة منتصف النهار بإعادة إشعال النيران مرة أخرى وتأجيجها من جديد .
أما القراءة الثانية فتقول على أنه عند غروب الشمس حاول بعض اللاجئين إلى المغارة مغادرتها بحثا عن الماء وهروبا من جحيم ألسنة النار والدخان وارتفاع درجة الحرارة التي أصبحت لا تطاق وهذا من أجل الفرار نحو الوادي فتعرضوا إلى إطلاق نار مكثف من قبل العسكر الفرنسي ورغم كل ذلك تمكن أحد الفارين رغم إصابته بجروح من الإفلات والنجاة فلجأ إلى قبيلة ” زريفة ” المجاورة لقبيلته حيث أبلغ القايد بما يحدث لأهالي أولاد رياح من حرق وإبادة جماعية طالبا منه النجدة كما كشف له عن استعداد هؤلاء للاستسلام شريطة أن تقدم لهم ضمانات بأن لا يمسهم أي مكروه عندها انتقل القايد إلى مكان تمركز الكولونيل بيليسيي وأبلغه بالمستجدات وبعد أخذ ورد ومفاوضات ماروطونية تبين من خلالها أن أولاد رياح لن يستسلموا إلا بعد ما يتأكدون أنهم لن ينقلوا إلى سجن مستغانم وذلك لما رأوه قبل هذا من تعذيب وترهيب واضطهاد حيث لم ينج منهم إلا القليل من الموت لذا فهم يريدون ضمانات مسبقة من بيليسيي حتى لا يرسلون مرة أخرى لسجن مستغانم المعروف لديهم باسم ” برج التعذيب ” وللتأكد من حسن نية الجنرال بيليسيي طالب اللاجئون منه أن يأمر عساكره الابتعاد عن المغارة حتى يتسنى لمن بداخلها الخروج بأمان إلا أن هذا الأخير رفض إبعاد قواته عن مداخلها المطوقة بإحكام ففضل أهالي أولاد رياح البقاء بداخلها ومصارعة الموت عوض الاستسلام إلى قوات العدو وما يتبعها من ذل وهوان .
صبيحة يوم 20 جوان 1845 وبعد انتهاء المحرقة تمكن عسكر الفرنسيين الدخول إلى المغارة حيث ينقل أحد جنود الجيش الفرنسي وهو من مجند إسباني تلك المشاهد المروعة التي رآها حيث يقول ” عند المدخل كانت الأبقار والحمير والخرفان مستلقية على الأرض وكأنها في رحلة البحث عن الهواء النقي ، الصافي لتستنشقه ، ووسط هذه الحيوانات كانت النساء والأطفال ، رأيت بأمي عيني رجلا ميتا ركبته في الأرض ويده تشد بكل قوة قرن ثور ، تقابله امرأة كانت تحتضن طفلا يبدوا أن هذا الرجل اختنق في نفس الوقت الذي اختنقت فيه كل من المرأة والطفل والثور حيث كان جليا أن هذا الرجل كان يبحث عن الطريقة التي ينقذ بها عائلته من هيجان هذا الثور الذي كان يركض في كل مكان ( …. ) في الأخير عددنا 760 جثة ” .
أكد هذا الرقم الضابط الإسباني الذي حدد عدد الجثث ما بين 800 إلى 1000 أخرج منها 600 دون حساب الذين أحرقوا جماعيا حيث ذابت أجسامهم بفعل الحرارة مكونة كومة واحدة من لحم البشر المفحم كما مات أغلبية الأطفال وهم مختبؤون في الملابس الداخلية لأمهاتهم “.
بهذه المشاهدات للعسكريين الفرنسيين انتهت حلقة من حلقات الأعمال الإجرامية والإرهابية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين وإلى اليوم لم تعمل أية جهة على دفن ضحايا هذه المجزرة حيث عملت فرنسا الاستعمارية كل ما في وسعها لطمس هذه الحقيقة . من الجانب الفرنسي كانت الخسائر التي تم الإعلان عنها كالتالي خمس جرحى لا أحد منهم في حالة خطيرة وخمسة وعشرون مريضا بالإسهال .
أما المجرم بيليسيي صاحب هذا الصنع ونتيجة ردود الأفعال و الاستنكارات المختلفة التي باتت تطلقها التيارات السياسية من باريس عند بلوغها نبأ المحرقة وما أحدثته من تقزز تقشعر لها النفوس رد عليها قائلا : ” كل ما جرى يتحمله أولاد رياح بسبب تعنتهم ، لقد حاولت مرارا من أجل تفادي ما حدث ، أنا رجل إنساني ولم أجد خلال مهامي أي مخرج لإنقاذ هؤلاء المساكين من هذا المأزق الجهنمي الذي سقطوا فيه وكل ما حدث لهم كان خارج إرادتي و ما طلبهم السخيف القاضي بعدم الذهاب إلى سجن مستغانم كان مطلبا تافها ” و في آخر أيامه وقبل وفاته في سنة 1864 وحسب أحد الشهود كان بيليسيي يردد دوما ” قولوا وكرروا أنني لم أرغب يوما في قتل القبائل الثائرة ” إلا أن صديقه الكولونال سانت أرنو يفضحه عبر تلك الرسالة التي بعثها لأخيه آدولف يوم 27 جوان 1845 والتي يقول فيها “… كلفت مع الكولونال بيليسيي بمهمة الإستيلاء على منطقة الظهرة وقد نجحنا في ذلك ، بيليسيي أقدم مني في الجيش الفرنسي وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، لذا عاملته باحترام وتركت له حصة الأسد [… ] إلا أنه يكون قد تعامل بنوع من الصرامة . لو كنت في مكانه لفعلت نفس الشيئ ” بعد مرور شهر فقط من محرقة أولاد رياح يبعث سانت آرنو لأخيه آدولف رسالة بتاريخ 15 أوت 1845 يروي فيها الكيفية التي قام هو الآخر بارتكاب محرقته ضد قبيلة ” السبايح ” حيث يقول فيها ” لقد أغلقت بإحكام كل المنافذ إلى أن أقمت مقبرة كبيرة وشاسعة . ستغطي الأرض وإلى الأبد كل جثث المتعصبين . ولا أحد يمكن أن ينزل إلى الكهوف ، لا أحد يعلم …. إلا أنا على أنه توجد تحت أقدامي 500 جثة من قطاع الطرق والذين لم يذبحوا أبدا الفرنسيين ” حيث طالب من أخيه عدم الإفصاح عنها لأنه كان يعلم أنه ارتكب محرقة لن يغفرها له التاريخ حتى بعد موته .
جريمة حرب والتي يعرفها القانون الدولي اليوم ومحكمة العدل الدولية في سنة 1998 بما يلي ” جرائم الحرب هي كل تلك الخروقات التي لا حد لها مثل الاغتيالات ، سوء معاملة المواطنين العزل داخل أراضي محتلة أو ترحيلهم قهريا للسخرة أو من أجل أي عمل آخر كذلك تعتبر من جرائم الحرب معاملة الأسرى أو كذا أسرى البحر معاملة سيئة إلى جانب إعدام الرهائن و تحطيم أملاك عامة و خاصة وأخيرا تخريب دون سبب مدن وقرى والتي لا تمس بأي صلة بالحرب “الذكرى 176 لمحرقة الظهرة “أولاد رياح” (ولاية مستغانم فراشيش)18-20 جوان 2021/1845
في يوم 18 جوان 1845، ارتكب الاستعمار الفرنسي إحدى أكبر جرائمه ضد الإنسانية في الجزائر. وكان قادة الجيش الفرنسي السباقين في تاريخ الحروب في ابتكار ”غرف الحرق والإبادة الجماعية” وما أصبح يسمى بعد الحرب العالمية الثاني بـ”المحارق”، التي تصنف كجريمة شنعاء في تاريخ البشرية لما في حيثياتها من إذلال للإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى وجعله في أحسن خلقة
إذ أمر الجنرال بيجو العقيد بيليسي بملاحقة عرش أولاد رياح، الذين قاوموا الغزو الاستعماري، فقام العقيد بـ”بساطة” بإبادة قبيلة أولاد رياح، التي فرت في حالة هلع وفزع من بطش جيوش المستعمر الفرنسي تبحث عن مكان آمن، فلجأت إلى مغارة الفراشيح بدوابها وأنعامها، والقليل من الزاد والماء.
المغارة التي تقع في أسفل مرتفع جبلي وعر بمنطقة الظهرة، بمنطقة نقمارية الواقعة شرق مستغانم، على بعد 80 كلم. فقام السفاح بيليسي بغلق وسد كل منافذ المغارة بالحطب والقش والتبن وصب الكبريت، ثم أضرم النار التي بقي لهيبه مشتعلا لمدة 24 ساعة. والنتيجة إبادة جماعية لقبيلة كاملة يتجاوز تعددها 1200 نسمة.
الفعل الإجرامي الذي حاول الاستعمار الفرنسي التستر عليه بشتى الطرق والوسائل، وصوّره على أنه حادث حرب عابر للتقليل من حجم الجريمة، التي تعد من أكبر وأفظع جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر على مدى 132 سنة من التواجد.
محرقة أولاد رباح جريمة ضـد الانسانية
سيبقى يبرز حقائق موضوعية عن أحداث ومحارق جرت وقائعها المؤلمة في سنة 1845 بدوار أولاد رياح ببلدية النقمارية، وفي ذلك العام، وقبل ثورة التحرير بحوالي قرن من الزمن، أقدمت القوات الاستعمارية بقيادة الجنرال بليسي السفاح على جريمة لاإنسانية خطيرة ظلت طيّ الكتمان، وهي محارق في كل من النقمارية وأولاد رياح، وحسبما تداول عن هذه المعارك أن القوات الاستعمارية الجنرال بليسي كان وراء كل أنواع التعذيب التي حدثت في المنطقة ومنها ثلاث محارق في النقمارية وأولاد رياح، حيث تم حشد مئات المواطنين في شهر أوت من سنة 1845م داخل مغارات وكهوف تحت الأرض وبعد الغلق عليهم بالإسمنت المسلح تم إبادة أكثر من 1000 مواطن (رجال ونساء وشيوخ وأطفال) عن طريق المحارق وكل هذه الإبادة الجماعية هي رد فعل على إنطلاق مقاومة شعبية من طرف السكان الذين لم يتقبلوا وجود قوات الإستعمار بمنطقتهم. وكان الباحث والمؤرخ عمار بلخوجة، قد أنجز بحثا تاريخيا حول هول هذه المحارق التي وقعت في الظهرة التي تعدّ من أبرز الجرائم ضد الإنسانية، وكانت فرنسا قد تكتمت عليها طيلة تواجدها بالجزائر. وإلى اليوم ورغم مرور174 سنة على وقوعها لايزال مكانها بدوار أولاد رياح والنقمارية يشهد على مدى بشاعة تلك المحارق التي كان مواطنون جزائريون من الأطفال والنساء وقودا لها، أحرقوا أحياءا داخل كهوف ومغارات عميقة. ولايزال سكان مناطق الظهرة يتذكرون أبا عن جد وعبر الأجيال هول ما حدث قبل إندلاع مختلف المقاومات الشعبية وثورة حرب التحرير
مجزرة الفراشيش في جوان 1854 الإبادة المبرمجة
لا يمكن الكشف والحديث عن الحركة الاستعمارية في الجزائر دون التطرق و الحديث عن المجرمين الذين عاثوا في أرض الجزائر فسادا خاصة خلال النصف الثاني من القرن 19 على غرار كل من بيليسيي، كافينياك، سانت آرنو وغيرهم من السفاحين الذين اعتمدوا سياسة الأرض المحروقة حيث لا يقل هؤلاء مسؤولية عن مجرمي الحرب العالمية الثانية التي دارت ما بين 1939 إلى 1945 أمثال أدولف هيتلر، قورينغ هيرمان، هينريتش هيملر دون نسيان ما ارتكبه الصهاينة آرييل شارون، رافياييل هيتان وعموس يارون وغيرهم في صبرة وشتيلة ذات عام 1982 وأقرب منا ما اقترفته الصهيونية تزيبي ليفني ، يهود باراك ، يعلون وآفي ديشتار وغيرهم من الذين ارتكبوا جرائم الحرب ضد الشعب الغزاوي الأعزل ما بين 27 ديسمبر و18 جانفي 2009 كل هؤلاء وغيرهم يصنفون في خانة مرتكبي المجازر ضد الإنسانية حيث بات التاريخ والمحاكم الدولية تطاردهم حتى في قبورهم وكيف لا بعد التصريح الذي أدلى به المجرم بيليسيي ذات عام 1845 عندما ارتكب مجزرته الدنيئة في حق مواطني أولاد رياح حيث قال : “جلد واحد من طبل عسكري مجند في الجيش الفرنسي أغلى من 1000 جلد من الذين أحرقوا في مغارة الفراشيش”
إنتهاكات بالجملة:
بهذه العبارات الحاقدة يطوي الكولونال بيليسيي ملف المجزرة التي تفنن في صنعها بمغارة ” الفراشيش” هذه المغارة التي دخلت تاريخ الجزائر صدفة تقع في منطقة الظهرة المتواجدة شرق ولاية مستغانم والتي تبعد عن مقر الولاية الأم بحوالي 115 كلم ارتكبت في ذات المغارة المذكورة أبشع المجازر ذات أيام 19 و20 من شهر جوان 1854، إلا أنه وللأسف لم تكن هذه هي المجزرة الأولى التي دونها العسكر الفرنسي في سجلاته بل ألف عليها حيث سبقتها مجازر أخرى كان بطلها آنذاك المارشال ” بيجو ” الذي قضى وبصفة كلية على القوات المغربية التي كان يقودها سيدي محمد عبد الرحمان في 14 أوت 1844 في معركة “إسلي” نسبة إلى تلك المنطقة التي تقع في الجهة الشرقية لمدينة وجدة، ففي الوقت الذي كانت هذه الحرب تدور رحاها بين جيش ملك المغرب والجيش الفرنسي كان الأمير عبد القادر متواجدا بالأراضي المغربية وقد لجأ إليها في تلك الفترة بعد ما انهزم جيشه في معركة الزمالة شهر ماي من سنة 1843 أمام قوات الدوق دومال ابن ملك فرنسا آنذاك جرت هذه المعركة كانت بمنطقة “طاقين” الواقعة جنوب شرق مدينة قصر الشلالة حيث تصارع الجيشان بكل قوة وشراسة إلا أن التفوق كان حليف الفرنسيين الذي تمكنوا من أسر حوالي 3000 شخص إضافة إلى إستلائهم على المؤن والذخائر بما فيها المكتبة الخاصة للأمير إن هذه الإنتصارات التي بات يحققها الجيش الفرنسي من الفينة للأخرى أضيفت إلى أرصدة قادته العسكريين حيث توهموا على أنهم وضعوا بهذا حدا نهائيا للمقاومة الشعبية في كل من الجزائر والمغرب ، إلا أن هذه التخمينات والحسابات سقطت وخابت بمجرد ما اشتعلت مقاومة جديدة في أفريل 1845 على يد الشاب بومعزة في منطقة الظهرة . مقاومة بومعزة تلقى الشاب بومعزة الدعم الكامل من قبيلة أولاد رياح حيث تمكن و بفضلها من هزم قبيلة سنجاس العميلة والموالية للفرنسيين كما تمكن في نفس الوقت من القضاء على الآغا الذي نصبته الإدارة العسكرية الفرنسية على المنطقة جزاء لما قدمه من خدمات جليلة لها في أوقات سابقة، عرف الشاب بومعزة كيف يوسع من رقعة انتفاضته الشعبية ما اقلق كثيرا الجنرال بيجو إلى درجة أنه قرر وضع إستراتجية خاصة بهدف القضاء عليها فبعث خمس قوافل عسكرية إلى المنطقة لتوزع عند وصولها عبر مختلف مناطق الظهرة لمحاصرتها وتوجيهها بالدرجة الأولى خاصة إلى تلك المناطق التي امتدت إليها نار المقاومة ولإنجاح خطته استنجد بكل من الجنرال ” آبوفيل ” قائد قافلة سطيف والجنرال “ماري” قائد قافلة المدية أما القوافل الثلاثة فهي تلك القوافل التي كانت متمركزة بمنطقة ” الأصنام” سابقا شلف حاليا حيث كان يقودها كل من الكولونيل “لادميرو” و”سانت آرنو” إلى جانب الكولونيل “بيليسيي” وبهذا الحشد الكبير يكون الجنرال بيجو قد جند خمس قوافل عسكرية ضخمة للقضاء علىمقاومة بومعزة الشعبية:
كان الكولونيل بيليسيي على رأس قافلة عسكرية ضخمة تتحرك بخطى ثابتة حيث كانت متكونة من 4000 عسكري مدعمة ب 200 ڤومي (قوم هي تلك المجموعات من أهالي المنطقة التي جعلت منها القوات الفرنسية قوات إضافية أو تابعة لها تسخرها عند كل معركة مع بني جلدتها مقابل أموال أو امتيازات) حيث وجهت هذه القوة العسكرية الكبيرة إلى المنطقة التي يقطنها أولاد رياح بهدف اخضاعها وقهرها ومن ثمة إنهاء تمردها حيث وضع الكولونيل بيليسيي نصب أعينه الوصية التي تركها الجنرال بيجو له ولبقية الضباط الفرنسيين ذات يوم 11 جوان 1845 عندما كانوا يتهيأون للرحيل انطلاقا من مدينة “أورليان فيل” حيث قال لهم ” في حال رفض هؤلاء السراق الخروج من المغارات لكم أن تفعلوا ما فعله “كافينياك ” الذي تجرأ ودون تردد على حرق قبيلة [ سبيحا ] لهذا يستوجب عليكم أنتم كذلك حرق هؤلاء كالذئاب” .
عشية انطلاق هذه القوافل العسكرية وخروجها من ثكنتها تحركت وحدة استطلاعية يوم 17 جوان من ثكنات مدينة ” أورليان فيل ” سابقا مدينة (الشلف حاليا) حيث جابت الجهة اليسرى من وادي جراح وراحت تقطع كل أشجار التين كما تعمدت حرق المنازل والمحاصيل الزراعية ما دفع بأهالي أولاد رياح ولتوقيف هذا الإعتداء الهمجي والإجرامي قاموا بمهاجمة هذه الوحدة الاستطلاعية وهكذا دارت مناوشات بينهما تراجع على إثرها المهاجمون واختاروا الاختباء داخل مغارة محاذية لوادي “الفراشيش” هذه المغارة التي تمتد على طول 200 م وهي محفورة في مادة الجير لا الكلس وتتميز بظلام دامس والرطوبة كبيرة.
خلال هذه الفترة كانت القافلة العسكرية التي يقودها الكولونيل بيليسيي قد غادرت ثكنة ” أورليان فيل ” شلف حاليا متجهة نحو النقطة التي حددت لها ضمن إستراتجية بيجو وهي منطقة أولاد رياح المتاخمة لجبال الظهرة حيث مارست خلال مشوارها وعبر المناطق التي مرت بها سياسة الترهيب بعدما شرعت في تسليط سياسة الأرض المحروقة على الأهالي أين باشرت في تطبيق برنامجها التقتيلي والتخريبي وهذا كلما اصطدمت بأراضي زراعية أو أهالي عزل على غرار قبيلة ” بني زنطيس ” حيث عند رؤية سكان القبيلة هذه القافلة الطويلة والكبيرة المحملة بأعتى الأسلحة الدفاعية والهجومية أسرعت النساء والأطفال وكذا الشيوخ للاختباء داخل مغارة الفراشيش حاملين معهم كل أمتعتهم ومؤونتهم وحيواناتهم من حمير وبغال وكذا الخيول ، هذه المغارة التي تعود سكان أولاد رياح الهروب إليها كانت عبارة عن ملجأ لحمايتهم من تسلط الجيش العثماني على الأهالي حيث كان يطل عليهم إلا في موسم الحصاد لأخذ محاصيلهم الزراعية كما كان يجمع الضرائب التي يفرضها عليهم إضافة إلى إرغامهم على مد الإتاوات طواعية مستعملين في سياستهم حتى أسلوب السلب والنهب ، أما العامل الثاني الذي كان يدفع أولاد رياح الهروب إلى المغارة هي تلك المعتقدات التي كانت سائدة آنذاك والتي تقوم على خرافة أن هذه المغارة تعد بمثابة البرج الحصين الذي يبعد الأخطار عن من بداخله لسببين أولهما ارتفاعها عن الوادي بحوالي 80م من جهة وثانيها أنها مكسوة بأشجار العرعار أما العامل الثالث الذي كان يدفع الناس اللجوء إلى المغارة يندرج في خانة المعتقدات الشعبية والقائلة على أن المكان مقدس يحميه أحد الرجال الصالحين ببركاته . كل هذه المعتقدات والروايات لم تظهر لأهالي أولاد رياح الأخطار التي كانت تحدق بهم كما كانوا في هذه اللحظة يجهلون المصير المحتوم الذي سيلاقونه داخل هذه المغارة لأنهم لم يكونوا يتصورون ولو للحظة الحقد والكراهية التي كان هؤلاء الأوربيون وفي مقدمتهم بيليسيي يحملونه لهم في قلوبهم وهم يقرعون طبول الحرب .
خلال صبيحة يوم 18جوان 1845 طوق الجيش الفرنسي المغارة بعدما عجز عن اقتحامها بسبب الطلقات النارية التي كان يطلقها المجاهدون المتواجدون بداخلها فأعطى بيليسيي أمرا للمدفعية بقنبلة المغارة حتى يستسلم من بداخلها وعند عجزه عن تحقيق ذلك تمركزت قواته حول مداخل المغارة إلى غاية اليوم الموالي أي يوم 19جوان 1845 وفي حدود الساعة العاشرة صباحا طلب بيليسيي من جيشه قطع الحطب من الأشجار المتناثرة هنا وهناك في المنطقة ومن ثمة جمع القش الذي كان متواجدا بكثرة في الحقول حيث أن شهر جوان هو موسم الحصاد وبعد جمع كل ما طلبه أمر بوضع الخشب على شكل رزم ووضعها عند مداخل المغارة الشمالية والجنوبية عندها أمر بإضرام النار على هذه الحزم الخشبية التي كانت في نفس الوقت محفوفة بالقش ، يقول الضابط الإسباني الذي كان شاهدا على الحادثة في الرسالة التي بعثها إلى الجريدة “المدريلانية هيرالدو Le Madrilène Héraldo “… إن النار أبت في البداية أن تشتعل بسبب المياه التي كانت تغمر مدخل المغارة وفي حدود الساعة الواحدة مساء يواصل قائلا بدأنا برمي أمام المدخلين حزم أخرى من الحطب حينها اشتعلت النيران و من الصدف يقول أن بدأت الرياح تنقل الدخان إلى داخل المغارة … مما كان يسمح للعساكر بدفع الحزم من الحطب إلى داخل فتحاتها تماما كما يحدث بداخل الفرن ” في نفس السياق وجه أحد الجنود الفرنسيين رسالة إلى عائلته يقول فيها بالنسبة لهذه الليلة المشئومة على أنه ” …. أبقيت النار مشتعلة خلال طول الليل … وعلى ضوء ألسنتها كنا نشاهد الوحدة العسكرية التي كانت مكلفة بالحفاظ عليها ، كنا نسمع صيحات الرجال والنساء والحيوانات وكذا تصدع وتكسر الصخور المتفحمة التي كانت تسقط داخل المغارة بفعل ارتفاع درجة الحرارة .
” للعلم كانت هذه المأمورية تجري تحت حراسة مشددة للضباط الفرنسيين الذين شددوا على مواصلة اشتعال النار ودون انقطاع لمدة ثمانية عشر ساعة حيث بدأت المحرقة في الساعة الواحدة مساء من يوم 19 جوان لتنتهي على الساعة السادسة صباحا من يوم 20 من نفس الشهر.
مطالب أولاد رياح للجنرال بيليسيي :
في يوم 20 جوان 1845 وفي ظل المحرقة التي سلطت على أولاد رياح بمغارة الفراشيش تضاربت الآراء والقراءات حول ما حدث في هذا اليوم حيث توجد عدة قراءات منها قراءتين يمكن اعتبارهما أكثر مصداقية من البقية لذلك نسردها في ما يلي :
بالنسبة للأولى تقول على أنه في صبيحة يوم 20 جوان وعلى الساعة التاسعة صباحا خرج البعض من الرجال من المغارة التي كانت تلتهمها ألسنة النيران حيث قدمت اقتراحا للجنرال بيليسيي تمثل في قبولها دفع ما قيمته 75.000 فرنك فرنسي مقابل انسحاب جيشه من المنطقة إلا أن هذا الأخير رفض هذا الطلب واعتبره شرطا غير مقبول وعندها عاد الرجال إلى المغارة وبدل البحث عن صيغة أخرى لحل المأساة أمر هذا القائد الفرنسي وفي حدود الساعة منتصف النهار بإعادة إشعال النيران مرة أخرى وتأجيجها من جديد .
أما القراءة الثانية فتقول على أنه عند غروب الشمس حاول بعض اللاجئين إلى المغارة مغادرتها بحثا عن الماء وهروبا من جحيم ألسنة النار والدخان وارتفاع درجة الحرارة التي أصبحت لا تطاق وهذا من أجل الفرار نحو الوادي فتعرضوا إلى إطلاق نار مكثف من قبل العسكر الفرنسي ورغم كل ذلك تمكن أحد الفارين رغم إصابته بجروح من الإفلات والنجاة فلجأ إلى قبيلة ” زريفة ” المجاورة لقبيلته حيث أبلغ القايد بما يحدث لأهالي أولاد رياح من حرق وإبادة جماعية طالبا منه النجدة كما كشف له عن استعداد هؤلاء للاستسلام شريطة أن تقدم لهم ضمانات بأن لا يمسهم أي مكروه عندها انتقل القايد إلى مكان تمركز الكولونيل بيليسيي وأبلغه بالمستجدات وبعد أخذ ورد ومفاوضات ماروطونية تبين من خلالها أن أولاد رياح لن يستسلموا إلا بعد ما يتأكدون أنهم لن ينقلوا إلى سجن مستغانم وذلك لما رأوه قبل هذا من تعذيب وترهيب واضطهاد حيث لم ينج منهم إلا القليل من الموت لذا فهم يريدون ضمانات مسبقة من بيليسيي حتى لا يرسلون مرة أخرى لسجن مستغانم المعروف لديهم باسم ” برج التعذيب ” وللتأكد من حسن نية الجنرال بيليسيي طالب اللاجئون منه أن يأمر عساكره الابتعاد عن المغارة حتى يتسنى لمن بداخلها الخروج بأمان إلا أن هذا الأخير رفض إبعاد قواته عن مداخلها المطوقة بإحكام ففضل أهالي أولاد رياح البقاء بداخلها ومصارعة الموت عوض الاستسلام إلى قوات العدو وما يتبعها من ذل وهوان .
نتائج المحرقة :
صبيحة يوم 20 جوان 1845 وبعد انتهاء المحرقة تمكن عسكر الفرنسيين الدخول إلى المغارة حيث ينقل أحد جنود الجيش الفرنسي وهو من مجند إسباني تلك المشاهد المروعة التي رآها حيث يقول ” عند المدخل كانت الأبقار والحمير والخرفان مستلقية على الأرض وكأنها في رحلة البحث عن الهواء النقي ، الصافي لتستنشقه ، ووسط هذه الحيوانات كانت النساء والأطفال ، رأيت بأمي عيني رجلا ميتا ركبته في الأرض ويده تشد بكل قوة قرن ثور ، تقابله امرأة كانت تحتضن طفلا يبدوا أن هذا الرجل اختنق في نفس الوقت الذي اختنقت فيه كل من المرأة والطفل والثور حيث كان جليا أن هذا الرجل كان يبحث عن الطريقة التي ينقذ بها عائلته من هيجان هذا الثور الذي كان يركض في كل مكان ( …. ) في الأخير عددنا 760 جثة ” .
أكد هذا الرقم الضابط الإسباني الذي حدد عدد الجثث ما بين 800 إلى 1000 أخرج منها 600 دون حساب الذين أحرقوا جماعيا حيث ذابت أجسامهم بفعل الحرارة مكونة كومة واحدة من لحم البشر المفحم كما مات أغلبية الأطفال وهم مختبؤون في الملابس الداخلية لأمهاتهم “.
بهذه المشاهدات للعسكريين الفرنسيين انتهت حلقة من حلقات الأعمال الإجرامية والإرهابية التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين وإلى اليوم لم تعمل أية جهة على دفن ضحايا هذه المجزرة حيث عملت فرنسا الاستعمارية كل ما في وسعها لطمس هذه الحقيقة . من الجانب الفرنسي كانت الخسائر التي تم الإعلان عنها كالتالي خمس جرحى لا أحد منهم في حالة خطيرة وخمسة وعشرون مريضا بالإسهال .
أما المجرم بيليسيي صاحب هذا الصنع ونتيجة ردود الأفعال و الاستنكارات المختلفة التي باتت تطلقها التيارات السياسية من باريس عند بلوغها نبأ المحرقة وما أحدثته من تقزز تقشعر لها النفوس رد عليها قائلا : ” كل ما جرى يتحمله أولاد رياح بسبب تعنتهم ، لقد حاولت مرارا من أجل تفادي ما حدث ، أنا رجل إنساني ولم أجد خلال مهامي أي مخرج لإنقاذ هؤلاء المساكين من هذا المأزق الجهنمي الذي سقطوا فيه وكل ما حدث لهم كان خارج إرادتي و ما طلبهم السخيف القاضي بعدم الذهاب إلى سجن مستغانم كان مطلبا تافها ” و في آخر أيامه وقبل وفاته في سنة 1864 وحسب أحد الشهود كان بيليسيي يردد دوما ” قولوا وكرروا أنني لم أرغب يوما في قتل القبائل الثائرة ” إلا أن صديقه الكولونال سانت أرنو يفضحه عبر تلك الرسالة التي بعثها لأخيه آدولف يوم 27 جوان 1845 والتي يقول فيها “… كلفت مع الكولونال بيليسيي بمهمة الإستيلاء على منطقة الظهرة وقد نجحنا في ذلك ، بيليسيي أقدم مني في الجيش الفرنسي وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، لذا عاملته باحترام وتركت له حصة الأسد [… ] إلا أنه يكون قد تعامل بنوع من الصرامة . لو كنت في مكانه لفعلت نفس الشيئ ” بعد مرور شهر فقط من محرقة أولاد رياح يبعث سانت آرنو لأخيه آدولف رسالة بتاريخ 15 أوت 1845 يروي فيها الكيفية التي قام هو الآخر بارتكاب محرقته ضد قبيلة ” السبايح ” حيث يقول فيها ” لقد أغلقت بإحكام كل المنافذ إلى أن أقمت مقبرة كبيرة وشاسعة . ستغطي الأرض وإلى الأبد كل جثث المتعصبين . ولا أحد يمكن أن ينزل إلى الكهوف ، لا أحد يعلم …. إلا أنا على أنه توجد تحت أقدامي 500 جثة من قطاع الطرق والذين لم يذبحوا أبدا الفرنسيين ” حيث طالب من أخيه عدم الإفصاح عنها لأنه كان يعلم أنه ارتكب محرقة لن يغفرها له التاريخ حتى بعد موته .
جريمة حرب والتي يعرفها القانون الدولي اليوم ومحكمة العدل الدولية في سنة 1998 بما يلي ” جرائم الحرب هي كل تلك الخروقات التي لا حد لها مثل الاغتيالات ، سوء معاملة المواطنين العزل داخل أراضي محتلة أو ترحيلهم قهريا للسخرة أو من أجل أي عمل آخر كذلك تعتبر من جرائم الحرب معاملة الأسرى أو كذا أسرى البحر معاملة سيئة إلى جانب إعدام الرهائن و تحطيم أملاك عامة و خاصة وأخيرا تخريب دون سبب مدن وقرى والتي لا تمس بأي صلة بالحرب “