الأعشى والمحلّق
✍️عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
قال بعض أهل البادية:
كان لأبي المحلّق شرف، فمات وقد أتلف ماله، وبقى الملحق وثلاث أخوات له، ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وبردين كان يشهد فيهما الحقوق.
فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به الملحق فقرّاه أهل الماء وأحسنوا قراه. ثم أقبلت عمة المحلّق، فقالت: يا ابن أخي، هذا الأعشى قد نزل بمائنا، وقد قرّاه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم، ولم يهج قوماً إلا وضعهم، فانظر ما أقول لك، واحتل في زق من خمر من عند بعض التجار، وأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردي أبيك، فو الله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه، ونظر إلى عطفيه في البردين، ليقولن فيك شعراً يرفعك به.
قال: ما أملك غير هذه الناقة، وأنا أتوقع رسلها .
ثم أقبل يدخل ويخرج ويهم ولا يفعل، فكلما دخل على عمته حضته، وحتى دخل عليها فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى؛ تتبعه ذلك مع غلام أبيك، وهو مولى له أسود، فإذا لحقته أخبره عنك أنك كنت غائباً عن الماء عند نزوله إياه، وأنك لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه؛ فإن هذا أحسن لموقعه عنده. ولم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر، وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه. ثم وجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه، فخرج يتبعه؛ فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمنفوحة اليمامة؛ فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم، وصب لهم فضيخاً فيهم يشربون منه. وقرع الباب فقال: انظروا من هذا…؟
فخرجوا فإذا رسول المحلّق يقول كذا وكذا؛ فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلّق الكلابي أتاك بكيت وكيت.
فقال: ويحكم! أعرابي والذي أرسل إليّ لا قدر له! والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعراً لم أقل قط مثله.
فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة، ثم أتيناك فلم تطعمنا لحماً وسقيتنا الفضيخ؛ واللحم والخمر ببابك، لا نرضى بذا منك.
فقال: ائذنوا له؛ فدخل فأدى الرسالة، وقد أناخ الجزور بالباب، ووضع الزق والبردين بين يديه؛
فقال: أقره السلام، وقل له: وصلتك رحم، سيأتيك ثناؤنا.
وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها وجلدها عن سنامها، ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرف؛ ولبس البردين؛ ونظر إلى عطفيه فيهما؛ فأنشأ يقول:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
. وما بي من سقم وما بي معشق
وفيها يقول:
ففي للذم عن آل المحلّق جفنة
. كجابية الشيخ العراقي تفهق
ترى القوم فيها شارعين وبينهم
. مع القوم ولدان من النسل دردق
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
. إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تُشب لمقرورين يصطليانها
. وبات على النار الندى والمحلقُ
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه
. كما زان متن الهندواني رونق
يداه يدا صدق فكف مبيدة
. وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
وسار الشعر وشاع في العرب، فما أتت على المحلّق سنة حتى زوج أخواته الثلاث، كل واحدة على مائة ناقة؛ فأيسر وشرف.