الراوي

قصة قصيرة

✍️وفاء عرفه:

رجل حكيم ذو لحية بيضاء، يرتدى جلباب أبيض فى طهر و نقاء الثلج الأبيض، تبدو على ملامحه خارطة الزمن بأكمله، كأنها رسمت علي يد فنان فذ عبقرى تفنن فى نحت خطوط الحكمة و الخبرة، بمنتهى الدقة على وجه الرجل الطيب حين تنظر إليه تغوص فى أعماق الزمن مرتحلاً بين سنواته الممتدة عبر آلاف الأعوام، يعاف الدنايا لا تمتلكه الدنيا و يزهد أن يملكها هادئ السريرة تتجلى كل معانى الحكمة فى عباراته، تحتوى كلماته معانى الحكمة فى الحياة بأسرها “عرف بإسم الراوى” لكل من يرتاد المسجد، الذى يجلس عادة فى إحدى أركانه لا يعلم أحد من أين جاء، لكن الجميع يعرفونه و يعتبرونه أحد أعمدة المسجد رمز للبركة و الخير و أيقونة الحكمة لهم جميعاً.
آدم رجل طويل القامة ذو بشرة خمرية قوى البنيان، يملك عقل راجح مثقف يحترف القراءة، مفكر بالسليقة لا يمر عليه شيئاً مرور الكرام يستخدم عقله فى كل مناحى الحياة، لكنه دائماً لديه أسئلة تشغله و تُؤرق عليه نعيم الحياة التى رزق بها، يفكر كثيراً فى الحياة و فلسفتها الأزلية كيف؟و لماذا؟ رغم ثقافته، إلا أنه يعجز عن الوصول لمبتغاه.
توجه آدم إلى المسجد ليؤدى إحدى الفرائض و بعد إنتهائه من صلاته، كان فى طريقه للخروج، مر من أمام الراوى لكنه أستشعر بقوة عجيبة تعيده ليقف قبالة الراوى، ناظراً إليه كأنه مسلوب الإرادة و على وجهه علامات الراحة و الرضا..
إبتسم له الراوى قائلاً: تعالى يا بنى و إجلس.
دون أن يتفوه بحرف جلس ٱدم كالطفل البرئ و بعمق شديد شعر آدم بشعاع، يخترق قلبه و روحه قبل عينيه، إندهش جداً من الإحساس الذى سكن داخله بكل الطمأنينة ثم الرغبة القوية للتواصل فوراً مع الرجل الحكيم.
إعتدل الراوى ف جلسته و إنعكست عليه أشعة الشمس، كأنها طاقة من النور جعلت وجه الرجل يضئ و ملابسه تزداد بياضاً، شرع الراوى فى بداية الحديث قائلا: يا آدم.
إن الدنيا لا تحتاج إلى الشروح و الأسئلة فهى لا تُجدى، نحن نكتسب خبرات الحياة، من الإرتحال عبر الزمن لأنه ثابت لا يتغير و لا يمر بنا، نحن يا ولدى: من يمر بالزمن نعبُره و نتغير، نُؤثر فيه و نصنع كل أحداثه، نَحنُ من خلقهم الله لإعمار الدنيا، و قد خاب من ظن أنه لعبة فى يد الأيام، لولا الإنسان ما كان هناك معنى للأيام أو الزمن، إن الله خلق كل شئ لخدمة الإنسان و ليس العكس، ثم إستطرد الراوى فى الحديث بقوله، يظل الماضى يؤسرنا بذكرياته يَسلبُنا متعة الحياة، نرتعب من فكرة المستقبل بما يحمله من المجهول، نُصر على أن ننسى الحاضر، و هو تلك اللحظة الحقيقية التى يجب أن نحياها و التى حقاً نملكها، أستعجب كثيراً ياولدى!! ممن يهدرون وقتهم بالتفكير فيما ليس بين أيديهم تاركين الحقيقة الواضحة أمام أعينهم مفسدين على أنفسهم متعة الحياة، ثم إستمر الراوى يزيد على ما سلف الحديث قائلاً: يا عزيزى..
يقبع في أعماق كل منا، ذلك الإنسان الذي يتصارع بداخله، الخير و الشر و الحق و الباطل و الجمال و القُبح، و الحب و الكره، و كل المشاعر و عكسها.
إن فى أعماق كل منا شخوص و ليس شخص واحد، نعم إنه الإنسان الذى نحياه بكل تناقضاته و بكل نواقصه و بكل فضائله، ألم يصادفك يا ولدى فى الحياة إنسان يجمع فى نفسه الواحدة كل من الطيب و القبيح أو القوى و الضعيف أو العابد و الفاسق، و تحتار فيه؟؟ لكنى أُجيبك: إن النفس الواحدة تتقلب بين كل هؤلاء، حتى تصل لليقين بما تميل إليه و تتحد معه و يناسب طبيعتها و يستقر عليها، هذا ماندعوه صناعة الإنسان لنفسه و تقويمها، هنا شعر الراوى بأن فى نفس آدم حديثاً يود أن يلقيه عليه فصمت و قال له هات ما عندك يا آدم..فأسرع آدم بالحديث قائلاً: هو ذاك ما يؤرقنى حقاً.
كيف للإنسان أن يصل إلى اليقين، و كيف ينجو بنفسه من براثن الشك و الضغوط من حوله، ليصبح كما يريد لنفسه أن تكون؟؟ إبتسم الراوى بهدوء و قال و هو ينظر فى الأفق البعيد.
يا ولدى مهلاً و هون على نفسك، الحياة أبسط من ذلك بكثير شريطة أن تكون هادئ النفس مؤمن بالقدر، أن كل ماعليك هو السعى في الحياة، متفائلاً دوماً راضياً بقدرك و إن كان مخالف لرغبتك، فتأكد أنه الخير لك.
إن رحلة الحياة مقدرة و مكتوبة، علينا إدراك ذلك جيداً و السعى فيها، لابد و أن يكون لتحقيق التوازن النفسى و السلام الروحى، فلا تلقى بالاً و إلزم السكينة و الإيمان لتنعم بحياتك، كى تستمر رحلتك كما ترغب و تريد، إن الله لم يخلقنا لنشقى بل لننعم بالحياة، و لم يخلقنا عبثاً و لكن لإننا نستحق الحياة. إن الإنسان يا آدم.. هو محور الحياة و ركيزتها الحقيقية، هو الماضى و الحاضر و المستقبل، له سُخرت كل المخلوقات و عليه تقوم الساعة.. و هو كلمة الله علي الأرض..
أنصت آدم بإمعان و تركيز لكل كلمة في حديث الراوى، شعر بالراحة و أُثلجلت نفسه فقال للراوى كنت فى أشد الحاجة لسماع حديثك و التمعن فى كل كلمة، لقد صدقت قولاً يا شيخى الحكيم، فى كل ما أسردته على سمعى من حديث ثم شكره كثيراً، و لولا ضيق الوقت ما تركه ليستزيد من بئر الحكمة.
قام آدم مودعاً الراوى على وعد منه أن يآتى لزيارته كلما مر من نفس الطريق، و إحتاج للقائه الذى يشبه جلسة نفسية ثم ألقى عليه السلام و مضى قاصداً وجهته.
بعد عدة خطوات خارج المسجد، تذكر آدم سؤال يريد إجابته من الراوى، فعاد مرة أخرى متوجهاً لنفس المكان لكنه لم يجد الراوى، فسأل عنه أحد الموجودين لخدمة المسجد، أجابه على الفور قائلاً: لقد مضى لحال سبيله، فهو هائم فى ملكوت الله يآتى و قتما يشاء و يذهب دون أن يعلم أحد مكانه، ربما لن تلتقيه مرةثانية، أو للأبد…
صمت آدم لبرهة، و شعر أن هذا اللقاء هو بمثابة رسالة لتهدأ نفسه من كل ما يؤرقها، و تذكر جملة من حديث الراوى راقت له كثيراً، ستظل فى عقله دوماً، وستترك بصمة أبدية من الراوى عنده..ألا و هى.. “إن الإنسان هو كلمة الله على الأرض”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى