الرواية العربية و اشكالية توظيف الخطاب الصوفي

للدكتورة عرجون باتول بجامعة وهران 1

محمد غاني _ الان نيوز


قدمت مؤخرا الدكتورة البروفيسور من جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف السيدة عرجون باتول في اطار سلسلة الندوات التي دابت على تنظيمها اكاديمية الوهراني للدراسات العلمية و التفاعل الثقافي تحت رئاسة مديرة مخير اللهجات و معالجة الكلم عميدة كلية الاداب سابقا بجامعة احمد بن بلة 1 و عضو المحلس الاعلى للغة العربية الدكتورة البروفيسور سعاد بسناسي محاضرة موسومة بعنوان “الرّواية العربيّة وإشكاليّة توظيف الخطاب الصّوفي”


تناولت فيها باسهاب و عمق بدايات ظُهور الأدب الصّوفي الرّوحاني في القرن الثّاني الهجري مع رابعة العدَويّة و المُتصوِّف الكبير إبراهيم بن أدهم حيث بدأت معهُما رحلة التصوّف ورحلة الأدب الصّوفي شعرًا ثمّ سردًا بخصوصيّته المعرفيّة العِرفانيّة كلَحظة تجلٍّ بين الذّات و السّالِك و بين التوحّد و الذّوَبان في الذّات الإلهيّة و الأنوار الكونيّة لتضيف إنّ القارئ و المتلقّي للأدب الصّوفي يجب أن يكون حذِرًا لأنّه لا يقرأ على ظاهره وإنّما في باطنِه من خلال التّأويل بمصادره المتعدّدة ومَشاربِه المختلفة و من خلال تجاوُز مستوى التّفسير السّطحي البَسيط إلى مستوى اشتِغال الدّلالة وهو ما تُسمّيه جوليا كريستيفا “البنية العميقة” التي لا تنظُر إلى النصّ بوصفه مُجرّد شكلٍ لغويٍّ أو مُحتويات ومَضامين أو مُجرّد وِعاء أيديولوجي أو آليّةً لاستنباط الحقيقة الصوفيّة وإنّما تنظُر إلى النصّ باعتباره بِنيةً مُتعالِية و عميقةً ومقرَّ إنتاجٍ لمُمارسةٍ دالّة و مُتواشِجة مع الخطاب الفلسفي والشّعري واللّغوي و الأنطولوجي و البلاغي و التّفكيكي و غيره

راهِن الخطاب الأدبي الذي انزاحَ إلى التصوّف ومنه الرّواية الجديدة
لقد تأثّر الخطاب الأدبي تأثُّرًا كبيرًا بالخطاب الصّوفي، حيث وجد فيه الأدباء ملاذًا للهروب من قَساوة الواقع و إنّ الصّلة بين الأدب والتصوّف وثيقة جدًّا؛ فكلّ واحد منهما بحاجة إلى الآخر، فالتّجربة الصوفيّة مسارٌ فِكري وروحي يَنفي كلّ تفسير جاهز و يُؤسِّس لتأويل جديد في تجربة الوُجود و المعرفة ليصبح هذا الوجود حركةً من التحوّل و التّعالي أثّرَت في الأدباء، وقدّمَت لهم مَنفذًا لمُتنفَّسٍ حُرٍّ طليق و رُوحاني عميق كما وأسّسَت للحَداثة العربية المعاصرة و لقد انتهَجت الرّواية الجديدة لنفسِها نهجًا صوفيًّا حين لجأت إلى التّجربة الصوفيّة لتغرِف من بحورِها العَميقة و كذلك فعَل العديد من الكُتاب الروائيّين قواعد العشق الأربعون لإليفشافاق و فاجعة
اللّيلة السّابعة بعد الألف لواسيني الأعرج و الولي الطّاهر يعود لمقامه الزكيّ للطّاهر وطّار و تلك المحبّة للحبيب السّائح و بياض اليقين لعبد القادر عميش و سفر السّالكين لمحمد مفلاح و العشق المقدّس لعز الدين جلاوجي و رواية التجليّات لجمال الغيطان و غيرهم حيث ابتعدَت هذه الرّوايات عن الكلاسيكيّة الواقعيّة و عَن جديد مارسيل بروست و فرانز كافكا إلى فَضاء ابن العربي والحلّاج و عن التّوظيف المألوف للتقنيّات السرديّة إلى تَوظيف مُتواشِج مع التصوّف الجديد
وإن كان التّعالُق مع الخطاب الصّوفي مُتواشِجًا و مُتداخِلًا إلى درجة التّماهي إلّا أنّ الفُروقات مَوجودة بين تجربةٍ روحانيّة وتجربة فنيّة، على سبيل تَوظيف الاعتراف كمثال في الرّواية وا في التّجربة الصوفيّة الرّوحانيّة ففي هذه الأخيرة لا ينبثِق الاغتراب من العقل الواعي للذّات الإنسانيّة، وإنّما من تلك المنزلة الروحية التي يصِل بها الصّوفي عندما يصل إلى درجة الفَناء التامّ أي التّلاشي التّام في الذّات الإلهية بواسطة العشق، لأنّ التّجربة الصوفيّة تحتاج إلى إنكار الفاعليّة العقلية أو انعِدامها أمّا التّجربة الروائيّة فتُؤسّس على العقل الواعي الفاهِم لمُجرَيات الواقع ثمّ يحاول الكاتب الرّوائي إسقاطَ هذه الوقائع والمُجرَيات داخل النصّ الرّوائي، لأنّه (الرّوائي) مُدرِكٌ لِما يحصل ما يجعله يعمل على رَبط الذّات الإنسانيّة بالعالَم و القوانين الاجتِماعية و السياسيّة والأحوال النفسيّة والتربويّة…
و قد دار نقاشٌ طويل بين الحاضرين من المُهتمّين بالخطاب الصّوفي، ومنهم الدّكتورة “شريفة حميدي” من جامعة خميس مليانة، الدّكتورة “جمعة مصاص” من جامعة خنشلة، الدّكتورة “آسيا متلف” من جامعة الشلف، الدّكتورة ” زهرة بن يمينة” جامعة مستغانم الدّكتور فتح الله الدّكتور محمود فالح والدّكتورة فاطمة عيساوي و أخرون و من الإشكاليّات المَطروحة ما تفضّلت به الدّكتورة حميدي شريفة عن أيّهما الأكثر نجاعًا في استعمال الإرث الصّوفي الشّعر أم الرّواية؟
وجاء ردّ الدّكتورة عرجون الباتول على النّحو الآني تستند الرّواية الصوفيّة على تراث عميق ينهَل من تجارب الحلّاج وابن عربي والنفّري ورابعة العدوية… و بدأت تدخل العالم العربي بنجاحٍ باهر منذ خطواتها الأولى على يد نجيب محفوظ ولعلّها اكتملت فنيًّا على يد جمال الغيطاني، والرّاهن يعكس ويُبشِّر بالمزيد من الأعمال النّاضجة على مستوى المتخيّل و التّجريب و قد ازدهر كتاب الرّواية التي تَنزاح إلى التصوّف منذ ثمانينات القرن العشرين بعد نجاح رواية إليف شافاق “قواعد العشق الأربعون” عام 2010
فالصوفيّة بها إمكانات جماليّة مفتوحة واستِثمارات لا حُدود لها، والشّكل الرّوائي مرِنٌ وقادرٌ على التجدّد، ولا أحد يُنكِر أنّ الشّعر هو بيت التصوّف الأوّل ومصدَره وعشّقه، ولكنّ الرّاهن ذائقة أدبيّة وفنيّة من المهتمّين ومُحِبّي الأدب، ومن الكُتّاب الأدباء في المجالَين الشّعر والسّرد ومن النقّاد و من ما يقبِل عليه القرّاء ومن الجوائز المُتحصَّل عليها يؤكّد نجاح الشّعر والرّواية اللّذان تعالقا مع الخطاب الصّوفي كليهِما على السّواء
ذلك أنّ كتب المُتصوّفة وآراءهم مُتجذرة وقريبة من قلوب ووجدان القارئ العربي والعالمي، فضلًا عن أن كتب الصوفيّة بها العديد من الصّور البلاغيّة الجميلة، كما أنّ لغة الصوفيّة كثيفة بثقافة عالية، لذا فإنّ التّعالق مع الخطاب الصّوفي في الشّعر المعاصر وفي تَضاعيف الرّواية الحديثة، يمنحُها عُمقًا فكريًّا ورقيًّا وجدانيًّا، وقد نجحا كلاهما في التّواشُج حدّ التّماهي وفي ردٍّ آخر انتصرَت الدّكتورة: زهرة بن يمينة للشّعر ورأت تفوّقَه على الرّواية التي وظّفت الخطاب الصّوفي
ومن الأسئلة المَطروحة في النّدوة أيضًا إلى أيّ مدى يتشابه ويختلف تَوظيف الخطاب الصّوفي بين الرّواية في المشرق والرّواية في المغرب العربيَّين؟ وهنا وضّحنا أنّ للخطاب الصّوفي ملامِح وسِمات أسلوبيّة وروحيّة كُبرى على سبيل: الكرامات، علاقة المريد بالشّيخ، المصطلحات الصوفية (الرّموز)، السّفر الرّوحاني (العُروج)، المقامات… إلخ و بعد اطّلاع الأديب على هذه السِّمات يأخذها ويُوظِّفها بمِنظاره وحسب وجهة نظره، وما يملك من رُؤيا فنيّة خاصّة ومخياله الخاص، وحسب قدراته وخصوصيّة التّجربة و أنّ هذا الاختلاف مَوجود حتّى بين التّجارب الصوفيّة المُتعالِية، فمَن يطّلع على تجربة ابن العربي مثلًا يجدها رؤية برزَخيّة تختلف عن التّجارب الأخرى كتجربة النفّري التي هي أشبَه باللّحَظات المنامية، وتجربة رابعة العدوية وهكذا بمعنى أنّ التّشابُه يكون في السِّمات الكُبرى أو لنقُل في البُعد العِرفاني لكن أسلوب توظيفها يختلف تماما، سواء بين صوفيّ وآخر أو بين أديب مُتأثّرٍ بالفكر الصّوفي و آخر و الله أعلم هذا و تمّ تقديم إضافات مهمّة تخصّ مَوضوع النّدوة من الأساتذة الآخرين، كالأستاذة مصاص جمعة التي أثرت الندوة ودعَت الأساتذة لحُضور ملتقى سينظم في موضوع: الأدب الصوفي التجليّات و الأبعاد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى