لم تكن في بالي

✍️ صالح الريمي :

الله عزوجل جلت قدرته يبتلي عباده بما شاء من أنواع البلاء، قال الله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، ولهذا على المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، والابتلاء ألوان: ابتلاء للصبر، وابتلاء للشكر، وابتلاء للأجر، وابتلاء للتوجيه، وابتلاء للتأديب، وابتلاء للتمحيص، وابتلاء للتقويم..
أنقل لكم قصة قرأتها عن ضعف الإنسان وذلته وهزيمته أمام بعض الأحداث، يقول صاحب القصة لم أكن أعرف أنني ضعف لهذه الدرجة، حيث أصبت إصابة بسيطة ترتب عليها سلسلة تداعيات لا تنتهي، وأصبحت أحلم باللحظة التي سأمشي فيها كأي شخص طبيعي.

بداية القصة عندما كنت خارجًا من المسجد بعد صلاة العصر، اختل توازن جسمي؛ فسقطت، فانكسرت قدمي، ذهبت للمستشفى وبعد عمل الأشعة تم تشخيص الحالة على أنها كسر في قاعدة المشطية الخامسة، وتم تجبيس القدم والساق حتى الركبة، وأخبرني الطبيب أن الجبس سيستمر من شهر ونصف إلى شهرين، قلت في نفسي إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم سألته ما هذا الذي تقول يادكتور؟ مستحيل، إنها مجرد طوبة صغيرة جاءت تحت قدمي، فلم تصدمني سيارة ولم أسقط من مكان مرتفع..
ثم يقول صاحب القصة: مساء نفس اليوم وبعد العودة إلى البيت بدأت تتكشف لي حقائق وتتتابع دروس وعبر ما كنت ألحظها ولا ألقي لها اهتمامًا كثيرًا وكبيرًا، لقد بدأتُ أكتشف أهمية قدمي للمرة الأولى في حياتي، وعظيم ما تقدمه لي من خدمات، وما تقوم به من أدوار لم أشعر بها قبل اليوم، فقد صار دخول الحمام مهمة تحتاج إلى تخطيط وتنسيق وترتيب وتركيز شديد جدًا، بدايةً من الوضوء للصلاة وقضاء الحاجة، صارت كل حركة تحتاج مهام وإلى ترتيبات خيالية وصعوبات بالغة لم تكن في بالي.

في اليوم الثاني ذهبت للحمام وحدي وبعد ما توضأت سقطت سقطة في الحمام، لا أعرف إلى الآن كيف نجوت منها ولله الحمد، فهي سقطة كانت للموت أو الشلل أقرب، وهنا بدأت التذكر نعمة المشي على رجلي سليمًا معافا، حتى لا أستطيع المكوث بمفردي في البيت، فلابد من وجود من يقوم على خدمتي ورعايتي، ولم يعد بإمكان أفراد الأسرة إتخاذ قرارات خروجهم من البيت بمعزل عن هذا التغيير الذي حدث..
صار الحمام بالنسبة لي بعيدًا جدًا وشاقًا، وصار المطبخ في قارة أخرى، ولأول مرة أستوعب مشاعر من أقعده المرض ومشاعر كبار السن، وأتخيل من يعيش وحده وتتوقف حياته حتى يأتي من يخدمه ويساعده ويرعاه، فلم أكن أتخيل أبدًا أهمية وخطورة قدمي أبدًا لهذا الحد، فمجرد تعطل قدمي تعطلت حياتي كلها وتبدلت تمامًا.

أذكر لكم قصة حدثت معي عندما تورمت قدماي بسبب الأملاح، ففي أحد الأيام كنت وحدي في البيت لوقت قصير، فذهبت على مشّاية كبار السن على قدم واحدة إلى المطبخ، وصنعت لنفسي كوبًا من القهوة ثم اكتشفت مفاجأة لم تخطر ببالي: كيف سأعود بكوب القهوة لكي أشربه أمام التلفاز وأنا أمشي بالمشاية؟!! حينها اكتشفت أن العودة سيرًا على قدماي بكوب القهوة في يدي نعمة عظيمة لم أنتبه إليها قط..
لهذا إذا ألفنا النعم جحدنا بها، فلنشكر الله على نِعمته ونفرح بها حتى لو تكررت ألف مرة، لأن مجرد دوام النعمة نعمة، وإلف النعمة وعدم شكرها جحود وظلم، ولتكن كلمة “الحمدلله” على لسانك في كل وقت، قلها بقلبك عن رضا واقتناع لما فيها من أجر عظيم، فالحمدلله دائمًا وأبدًا، والحمدلله كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.

*ترويقة:*
نحن لا نتفكر في قيمة النعم إلا إذا فقدناها، يعني نألف النعم ونعتاد عليها حتى نفقد الشعور بإنها نعمة، وفضل من الله كبير، فكلنا يعتقد أنه يعيش حياة عادية وينقصه كثير من النعم، ثم يكتشفت بعد فقد أي نعمة أنه يتنعم بنعم عظيمة وقوية وكبيرة لم ينتبه لها، فاعتياد النعمة يجعلنا ننسى أنها “نعمة، نعمة، نعمة”، إذًا تعرفوا على عمق ومعنى هذه الكلمة.

*ومضة:*
قال تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ، إِيلَافِهِمْ)، هذه أول آية من سورة قريش تناقش مشكلة حياتية وهي (إِلْفُ النعمة)، يقول الله لنا لإيلاف قريش واعتيادهم على استقامة مصالحهم ورحلتيهم بالشتاء والصيف دون النظر لواهب هذه النعم ومديمها.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى