إشكالية توزيع الاختصاص

✍د. فواز فاحس العنزي – إستاذ القانون المساعد- جامعة حفر الباطن :

يثير إسناد النظر في بعض المنازعات التي تكون الإدارة طرفا فيها باعتبارها صاحب السلطة والسيادة إلى المحاكم العمالية، إشكالية توزيع الاختصاص بين القضاء الإداري والقضاء العادي، من حيث تحديد معايير تطبيق قواعد القانون الإداري على المنازعات الإدارية وانعقاد الاختصاص لديوان المظالم، ومعايير تطبيق قواعد القانون الخاص وانعقاد الاختصاص للقضاء العادي، وما إذا كان هذا التباين يؤدي إلى تنازع الاختصاص بين المحاكم في هذا الإطار  .

وسبب كتابة هذا المقال هو صدور حكم قضائي عن احدى الدوائر العمالية في المملكة والذي قضى بالاختصاص النوعي للمحاكم العمالية في الدعوى الماثلة أمامه والتي تتلخص بأن المدعي يعمل لدى المدعى عليها (جهة إدارية-الشؤون الصحية في احدى المناطق) بموجب عقد عمل وفقا لبرنامج التشغيل الذاتي، وقامت الجهة الإدارية بإصدار عقوبة إدارية بحقه تتمثل بالحسم من راتبه مطالبا بإلغاء العقوبة الصادرة بحقه، واعتبرت المحكمة العمالية أن الدعوى من قبيل المنازعات العمالية وأنها تختص بنظرها استنادا للمادة 34 من نظام المرافعات الشرعية والتي تنص على “اختصاصها بالمنازعات المتعلقة بعقود العمل والأجور والحقوق وإصابات العمل والتعويض عنها”، وقضت المحكمة بإلغاء قرار العقوبة الصادر من عن المدعى عليها (الشؤون الصحية) بحق المدعي .

فهذا الحكم وإن كان سليما من حيث بنائه وتكييفه والمقتضيات القانونية التي استند عليها، فإنه في نفس الوقت يثير إشكالية في غاية الأهمية تتعلق بتوزيع الاختصاص بين المحاكم العمالية وديوان المظالم في منازعات تعتبر من حيث طبيعتها وجوهرها منازعة إدارية باعتبار أحد طرفيها سلطة إدارية

‏​
‏​ومدى صحة انعقاد واختصاص المحاكم العمالية للنظر في منازعة أحد أطرافها جهة إدارية من عدمه، وهل أن هذه المحاكم قد سلبت الاختصاص الأصيل للقضاء الإداري المتمثل بديوان المظالم بصفته صاحب الولاية العامة للنظر في هذه المنازعات من عدمه.
وقد أثار هذا الإشكال تباينا في وجهات النظر المختصين، بين المؤيد لاختصاص ديوان المظالم ، والمؤيد لاختصاص المحاكم العمالية .

أولًا: وجهة النظر المؤيدة لاختصاص ديوان المظالم
كانت الغاية من اختيار نظام ازدواجية القضاء في النظام القضائي السعودي، هي إسناد اختصاص النظر في كافة أنواع المنازعات الإدارية للقضاء الإداري بمختلف درجاته، وإسناد باقي المنازعات للقضاء العادي بمختلف أنواعه المدنية والتجارية والجنائية، ووضع في نفس الوقت نظام المرافعات امام ديوان المظالم التي تسري أمام القضاء الإداري ونظام المرافعات الشرعية التي تسري أمام القضاء العادي.
وعمل المنظم السعودي منذ إحداث ديوان المظالم على التأكيد اختصاص ديوان المظالم في كافة أنواع المنازعات الإدارية باعتباره صاحب الولاية العامة للنظر في هذا النوع من المنازعات سواء تعلق الأمر بقضاء الإلغاء أو القضاء الشامل‏، فقد ورد في المادة الأولى من النظام بأن ديوان المظالم “هيئة قضاء إداري مستقل”، كما حدد النظام نطاق اختصاص ديوان المظالم ودرجات التقاضي الإداري في المملكة العربية السعودية في ثلاث درجات (ابتدائية – استئناف إدارية – والمحكمة الإدارية العليا).
‏​وحرص المنظم السعودي في المادة 13 من الديوان على شمول اختصاصه ‏لكافة المنازعات الإدارية، فبعد أن أورد نطاق اختصاص القضاء الإداري في هذه المادة، فقد حرص على إيراد الفقرة (و) ‏من المادة 13 والتي ورد فيها “المنازعات الإدارية الأخرى” وبذلك فقد قطع المنظم الشك باليقين بإيراده لهذه الفقرة من حيث ‏شمول اختصاص الديوان لكافة المنازعات الإدارية، بعد أن قام بتعدادها على سبيل المثال في الفقرات السابقة للفقرة (و) من المادة 13.
‏​ومن خلال تطبيق هذا المفهوم على المنازعة موضوع هذا المقال، فإن من شأن القول التسليم باختصاص المحكمة العمالية في نظر إلغاء الجزاء التأديبي الصادر من الادارة (المستشفى) أن يؤدي إلى إفراغ نص المادة (13/و) من مضمونه وتجريده من فحواه، وعليه فإن الاختصاص ينعقد لديوان المظالم كجهة اختصاص حصري في مجال المنازعات الإدارية، فهو جهة القضاء الطبيعي لهذا النطاق.
‏​وطالما أن وقائع الدعوى تشير إلى أننا بصدد قرار إداري نهائي صادر عن جهة إدارية في نطاق نشاط له طابع المرفق العام، وأن أحد أطراف النزاع شخص عام من أشخاص القانون العام والمتمثل بقرار الشؤون الصحية ضد المدعي بتوقيع عقوبة الجزاء التأديبي بحقه، وهنا يتجلى دور القاضي الإداري في نطاق ديوان المظالم بالتحقق في نظر المنازعة من ولايته بنظرها واختصاصه نوعياً ومكانياً، باعتبار أن فقدان الولاية مانع أصلا من نظر الدعوى شكلاً وموضوعاً.
ومما لا شك فيه أن وقائع الدعوى تشير إلى أننا بصدد منازعة إدارية محورها مدى شرعية قرار الجهة الإدارية المتمثلة بالشؤون الصحية، مما يدخل في صميم اختصاص الديوان، خاصة أن الذي أدى إلى نشوء هذه المنازعة هو العلاقة التي نشأت بين جهة إدارية تقوم على أحد المرافق العامة وبين المدعي، وكان موضوعها الطعن في الجزاء التأديبي، وكان سببها هو استعمال الإدارة لسلطاتها المنصوص عليها في النظام واللوائح.
‏​ثانياً: وجهة النظر المؤيدة لاختصاص المحكمة العمالية في هذا النزاع
‏​القاعدة العامة هي اختصاص ديوان المظالم في جميع المنازعات الإدارية بصفة عامة وفقا للنصوص الواردة في نظام ديوان المظالم، ويكون للمحاكم العادية وللهيئات ذات الاختصاص القضائي الفصل بكل ما عدا ذلك من منازعات، إلا أن هذه القاعدة يرد عليها استثناءات، حيث توجد بعض النصوص المتفرقة في أنظمة متعددة تجعل من بعض المنازعات الإدارية والتي تتصل بالإدارة من اختصاص القضاء العادي.
‏​ومن خلال الرجوع إلى وقائع الدعوى المنظورة أمام المحكمة العمالية، فإن المنازعة بين المدعي والذي يعمل لدى الجهة الإدارية المدعى عليها بموجب عقد عمل وفقاً لبرنامج التشغيل الذاتي تنطبق عليه المادة الخامسة من لائحة تنظم العمل للبرنامج والتي تنص على أن “تطبق أحكام نظام العمل ولائحة التنفيذية والقرارات الوزارية الصادرة تنفيذاً له على ما لم يرد في اللائحة”.
‏​وقد قررت المحكمة اختصاصها بنظر الدعوى وفقا لقرار مجلس الوزراء رقم 212 وتاريخ 21-11-1406 هـ الذي تضمن الآتي “يظل الاختصاص بنظر الخلافات العمالية المتعلقة بعقود عمل الحكومة للجان العمل وتسوية الخلافات العمالية المنصوص عليها في نظام العمل والعمال إلى أن يصدر النظام الخاص بالمحاكم العمالية”.
‏​وهذه النصوص تعد استثناءً على المبدأ العام لاختصاص ديوان المظالم بالنظر بجميع المنازعات الإدارية، حيث اخرجت هذه النصوص المتقدمة أعلاه جميع المنازعات العمالية التي تتعلق بعقود عمال الحكومة، وأسند الاختصاص إلى لجان العمل وتسوية الخلافات العمالية، وعليه فقد خرج عن ولاية ديوان المظالم القضائية وأسند إلى لجنة فصل المنازعات، مما يؤكد اختصاص المحكمة العمالية بنظر هذا النزاع، حتى لو كان أحد طرفيه جهة إدارية وبذلك تكون هذه الدعوى من اختصاص تلك الهيئات وتخرج عن اختصاص المحاكم الإدارية.
إن إخراج المنازعات العمالية التي تكون الإدارة طرفا فيها من دائرة اختصاص القضاء الإداري، قد يحرم المتقاضي من الضمانات القانونية والقضائية التي يوفرها ديوان المظالم للحد من تجاوز السلطة، والذي وجد أصلا لإحداث نوع من التوازن في العلاقة القانونية التي تتمتع فيها السلطات الإداري بامتيازات السلطة العامة والفرد أو الموظف أو المواطن الذي يعتبر الطرف الضعيف في هذه العلاقة.
وفي النهاية وانطلاقاً من مبدأ ضرورة ان يزدهرالقضاء الاداري ويبدع ويبتكر بعيداً عن اغلال القانون الخاص وقيوده، لذا نهيب بالمنظم السعودي ان يجري مراجعة شاملة لكافة التشريعات التي من شأنها ان تسلب اختصاص القضاء الاداري، ليتسنى للقضاء الاداري ممثلاً بديوان المظالم كجهة قضاء اداري مستقل ومتخصص ومحايد ان ينظرالمنازعات الادارية الغاءً وتعويضاً بصفته القضاء المختص الذي يحدد مدى مشروعية تصرفات الادارة، بما من شأنه ان يحقق اقوى الضمانات لاقرار مبدأ المشروعية.

Related Articles

Back to top button