المانع والمرجو في رواية تيانو لمصطفى بوغازي – اصطياد المنسي في تداعيات الأحداث الظلية .
المانع والمرجو في رواية تيانو لمصطفى بوغازي – اصطياد المنسي في تداعيات الأحداث الظلية .
الدكتورة منيرة نوري
جامعة ثليجي عمار -الأغواط- قسم اللغة والأدب العربي- كلية الآداب واللغات- الجزائر
الملخص:
يتأسرد التاريخ في رواية تيانو في مساءلة إيديولوجية لطروحات سياقية ونوستالجية، تتشابك فيها الأحداث المغيبة، وتُستحضر المظاهر الحياتية التي خلفتها الذهنيات الكولونيالية؛ من ترحيل قسري وأبارتهايد يُمارس على الجزائريين وفئة الأقليات من فرنسا و كاليدونيا الجديدة.
وقد دأبت دراستي على اختراق سياج الأنساق الملغومة وإدحاض نزعة التفوق الوهمية، التي يتبناها الإنسان الأبيض، والاحتفاء بالهوية الإنسانية في حوارية معبرة عن واقع مهمش واضطهاد مدروس.
الكلمات المفتاحية: الإيديولوجية، الكولونيالية، الأبارتهايد، الحوارية، تيانو، مصطفى بوغازي.
أولا: توطئة
تمثل الذاكرة بوتقة تاريخية تشتغل على البعد التصويري والرواسب الداخلية والسرد الانسيابي من لدن لغة مطوِعة، يدأب فيها الروائي إلى تجسيد التاريخ في بنية سوسيوثقافية تعزز خصوصية الرواية، وقد رصد الروائي مصطفى بوغازي التفاصيل المنسية وفق محركات الهوية الثقافية، مستنبطا مرجعيات إيديولوجية، تعكس الرؤية ذات الطابع العنصري التي كرّسها الاستعمار على الشعب الجزائري والطبقة الدونية في المجتمع الفرنسي.
فقد كان فضاء كاليدونيا الجديدة مصرعا لأحداث رصدت تداعيات الكولونيالية وطقوسها المؤججة لنار الفتنة، مستلهما فيها الروائي المواقف التاريخية ومركزا على الأحداث المظللة المترامية والثقافات الخفية.
وقد تم استقطاب الكثير من الوقائع الحياتية المضمرة واستنطاقها في صورة ممزوجة بالسياسة تتواشج وسيناريوهات مظللة لتخوم الاستعمار، وإيديولوجياته المحرضة على التمييز العنصري وسياسة الإلغاء الممارسة على المنفيين الذين أبيدت هوياتهم وأهينت كرامتهم.
ثانيا: نسقية المانع في رواية تيانو- عزلة الأرض البعيدة-
تتجلى الأيديولوجية المانعة في المتن الروائي تيانو من خلال الرؤية الاضطهادية والشعور بالنقص الذي اعترى المبعدين عن مواطنهم، جراء عار الكولونيالية في ظروف وحشية همشت الجزائري وقتلت رغبته في الحياة، من خلال الاضطهاد الطبقي الذي جعلهم في أسفل السلم الاجتماعي، بأن يمارسوا أشق الأعمال وأرذلها مقابل لقمة تسد رمقهم الجوعي، وتتطاول على عرقهم وهويتهم بدافع الهيمنة.
فقد تعايش الروائي مع أحداث المنع التي مورست على الأقليات وعلى الجزائريين، الذين ثاروا على الظلم وتصدوا لسياسة الإلغاء، فكان عقابهم الذي يرون بأنه تخفيف لما مورس عليهم في السجون، وهو نفيهم إلى جزر كاليدونيا الجديدة، أين انقطعوا عن العالم وأسسوا عالمهم الخاص، فأصابهم التشرذم الفكري جراء تغليطهم بمدى صلاحية تلك الأرض التي رُحِلوا إليها مع قسّيسيهم وراهباتهم، علّهم يغيروا في دينهم ومعتقداتهم، إلا أنّ في قاموس كل واحد منهم، أنّ تلك الجزيرة “لا تعدّ سوى بؤرة جحيم من المعاناة، ومذبحا لأمال الحالمين بالحرية، تكتم أصوات من انتفظوا في وجه الجلادين والاستغلاليين والأباطرة، وتستبيح كرامة وعنفوان أولئك الأشاوس الذين قاتلوا الغزاة”، فقد مُنِع المرحّلون من أبسط حقوقهم ومن حرياتهم التي دفعوا حياتهم رهينة في سبيلها، فالآخر المخالف كثيرا ما يفرض ذاته على من هم دولة اقتصاديا، مستمسكا بناصية الهيمنة ومدحضا لميكانيزم الدفاع التي يتبناها المغلوب على أمرهم، فكان منه إلا أن يؤسس لخطاب الكراهية بين الأهالي والسكان الأصليين لكاليدونيا، فأول محاولاته محاربة الإسلام، حيث مُنِع الجزائريون حتى من حمل القرآن الكريم، لمّا جاء قرار بسحب المصحف من السيد عمار (معلم القرآن)، سيما وأن تم الاتفاق على جواز ذلك، إلا أن اليهود يتسمون بصفة اللاوعد، حيث سحب القبطان منه المصحف الشريف معقبا بنبرة حادة “لا أعتقد أنا نسمح لهذا الدين الذي نحاربه من قرون بأن يرافقنا إلى هناك… نحن نحمل أنوار المسيح والحضارة إلى الوثنيين في تلك الأرض البعيدة” إذ تبدو حركة المقاطعة للدين الإسلامي جلية، وحملة تشويهه بارزة دون أدنى احترام للديانات تعزيزا للمصالح الاستعمارية.
فإيديولوجية المانع اتسعت رقعتها، سيما وأنّ النص
الروائي مزيج بين الأدب التاريخي والاجتماعي والعرف الثقافي في المجتمع الجزائري والفئة المهمشة أينما حلت، فانجرّ عن ذلك خطاب الكراهية الذي يحمل “جميع أشكال التعبير التي تنشر أو تشجع أو تبرر التمييز، وكذا تلك التي تتضمن أسلوب الازدراء أو الإهانة أو البغض أو العنف الموجهة إلى شخص أو مجموعة أشخاص على أساس العرق أو الجنس أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني أو اللغة أو الانتماء الجغرافي أو الحالة الصحية” التي مورست على الشعب الجزائري على وجه الخصوص محاربة للدين بالدرجة الأولى واللغة ثانيا؛ ذلك أن الشعب الجزائري يتسم بالشهامة ورفض الذل ولو كلفه ذلك حياته، ما انبثق عنه خسران حريته وحمله للكثير من المحاذير والممنوعات التي استشفّها الروائي بحصافة، ليجسد التوثيقية السردية، التي كرّسها الطابع الكولونيالي أينما حل وارتحل.
فتسريد التاريخ ينضوي محكيات ضمنية أغنى بها الروائي المشهد، إلا أنه ركز على التابوهات ذات البعد المأساوي، لنقل الحقائق التاريخية وتعرية جلدها السياسي ذي الأفاعيل اللاإنسانية والتحرش العنصري القائم على الأحادية الإيديولوجية والخطاب القومجي، الممارس بتجهيل رسمي وحركات عنصرية متطرفة تشجع على اللااستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، حيث عاش الجزائريون في ظروف اجتماعية مأساوية، بدءًا بجزيرة سيدان وسان بول وتينيريفي، أين أحدث المستعمر انقساما بين المهجّرين، ليكون الجزائريون أسفل السلم في زنزانات انفرادية ومعاملات قاسية، ليتجلى الحقد الدفين للفرنسيين تجاه الجزائريين، ففي الترحيل كانت هناك الكثير من الممارسات العنصرية التي منعت كل من يتكلم اللغة العربية أو ذا اعتقاد إسلامي، فحتى أثناء موتهم تمارس عليهم الأبارتهايد بكل وحشية ففي “ذلك اليوم كانت جثة المبعَد الجزائري وليمة لأسماك القرش دون أي طقوس جنائزية، على غير ما تجري العادة مع موتى المسيحيين” مما يزيد من التوتر وتفاقم شحنات خطاب الكراهية بين الأعراف والديانات، في حين يُنظر إلى الترحيل بأنه تخفيف لعقوبة السجن؛ فإذا كان هذا الاحتقار يعتبر تخفيفا فكيف كان يعامل الجزائريون في السجون إذن؟
فقد عبّر أحد الأهالي (يوسف) عن مدى الألم الذي يجتاحه بعد خروجه من السجن بمعية صديقه معلم القرآن عمار “قضينا سنوات في السجن كادت أن تكون طويلة، لكنها خُفّفت بحكم الإبعاد بعد الطعن”، ليكون هذا الاضطهاد الاستيطاني صورة سلبية لا بد أن ترسخ في أذهان النشء، وحبكة فنية عبرت عن هوية سردية لأحداث لا ينساها التاريخ، فقد عبر عن هذه الهوية بول ريكور بقوله “هي البؤرة التي يقع فيها التبادل والتمازج والتقاطع والتشابك بين التاريخ والخيال بواسطة السرد فينتج عن ذلك تشكيل جديد يكون قادرا على التعبير عن حالة الإنسان بأفضل مما يُعبر عنه التاريخ وحده” وهذا ما عكسته رؤية بوغازي، والمرجعيات التي بنى عليها متنه السردي، من خلال الكشف عن الحقيقة الزائفة التي يروّج لها الطواغيت بطرق فنية تستلهم المواقف التاريخية، وترصد تداعيات الكبح الحرياتي التي مورست على المنفيين، سيما الجزائريين من استقطاب لواقع حياتية ملغّمة التي نحتْها الرواية، لتتداخل بذلك مع السياسة كطرف إيديولوجي مُسقِط لديستوبيا الهيمنة الاستعمارية ونزعة تفكيكية لجرائمه المتوارية.
ثالثا: نسقية المرجو في رواية تيانو –عزلة الأرض البعيدة-
ينأى الخطاب التاريخي عن العديد من المغيبات التي تستمد الطاقة السردية و تستقصي العلل الإيديولوجية للمستعمر، فتركز على كل ما هو غميس، مُنقّبة عن الغايات التي يواريها التاريخ، مشكِّلة وعيا استشهاديا يواجه التاريخ ويسائله، مرتكزا على السرد المفصلي المتمرد على التسييس التاريخي والمخلخل للإيديولوجية الاستيطانية.
وقد شكلت الروادع الجزرية نوعا من أنواع العقوبة التي نالت الأشاوس من الجزائريين الذين لم يرضخوا للمستعمر، وفضلوا الدفاع عن وطنهم، وكشف مؤامرات العدو الغاشم، فكان منه أن يكمم أفواههم ويبيدهم ويغير معتقداتهم كما توهم، لتكون كاليدونيا وجهة التعذيب الثانية، وهم في طريقهم نُكَّل بهم أشد تنكيل، حيث “قبع قفص المبعدين ناحية حيّز خصص للدواجن والخنازير..كانوا خمسة في القفص أمام سادسهم فبات وليمة للأسماك منذ أسبوع، حُشرت جثته في كيس ربط إلى ثقل، عجّل بالغوص إلى قرار سحيق في يوم عيد الأضحى من سنة ألف ومائتين وأربعة وتسعين هجري” حيث تجاوز التنكيل الجانب البيولوجي، ليتعدى إلى جانب الكرامة أين حُرِم الجزائريون من الموت الكريم والدفن الكريم، بالإضافة إلى تموقعهم مع الدجاج والخنازير، هو الأمر الذي زاد من حقارة المستعمر؛ حيث حمل المقتطف السردي نسقا عقائديا مس بكرامة الدين الإسلامي، ليكون كل من تُسوَل له نفسه الدفاع عن وطنه ودينه، يكون مصيره القتل وفي أي يوم؟ يوم الأضحى، هذا ما جسده الأمريكان مع الصنديد صدام حسين، الذي أُعدم يوم عيد الأضحى، وهنا يتجسد نسق السخرية من الدين والاغتيال على معتقداته.
فقد اعتلت رواية تيانو دلالات تاريخية وسياسية ونسقية تغوّل فيها الفصل العنصري بين المسلمين ولمسيح، بدافع هيمني وتطاول على العقيدة، وذلك بغية تكريس البنية الكولونيالية، إلا أن المنجز السردي هذا سعى لإلغاء هذه السياسة القائمة على التمايز العرقي وكره الآخر بكل عدوانية، حيث يرى وائل حلاق أنّ لـ”الكولونيالية الفرنسة ومستشرقوها شكلا بشعا من الوحشية والقسوة، ما يعني القول أنّ سياستهم وممارساتهم – والتي ارتبطت بسيادتهم- كانت أكثر تمييزا وتعسفا من سياسات وممارسات القوى الكولونيالية الأخرى” مما يصنفهم كأكثر الشعوب ارتكابا للمجازر، والاستعمار الفرنسي للجزائر خير دليل.
ترمي الكولونيالية إلى فرض هيمنتها الفكرية على الشعوب الخاضعة لها؛ إمّا خضوعا أو إجبارا فـــــ “تاريخ البيض حافل بمجازر التطهير العرقي والإبادات الجماعية”وتزييف الواقع، فما كان من هذا المنجز هو كشف المستعمر وأوكاره الدنيئة، التي مارست كل ضغوطاتها محلحلة المجتمع الجزائري الإسلامي والانتصار للوعي المغلوط، لذا عمل الروائي على تحريك إرادة الشعب وتوجيه فكره بدافع التغيير والتكاثف ضدّ تخوم الاستعمار.
فكانت رؤية الجزائريين ثورية، حتى وهم في أحلك الأزمات وفي أعز الاعتداءات الممارسة عليهم وهم في الأسر، حيث “أن الحذر بقي في أعلى درجاته من الجزائريين، فقد أبدوا تضامنا فيما بينهم، وأصبحوا يشكلون قوة ضاربة، ووحدة متماسكة يخشاها السكان الأصليون وتثير مخاوف السلطة الحاكمة” فاتحاد الجزائريين أبدى تخوفا حتى لدى الكاليدونيين، الذين امتزجت ثقافتهم بثقافة الفرنسيين، خاصة مع حملات التبشير التي تبناها الرجل الأبيض على ذوي البشرة السوداء، وعلى من ليس لهم جنسية فرنسية، وقدّم نفسه كقوة حضارية ترمي إلى التطور في أراضي الشعب المتخلف، وتكرس النظرة الاستعلائية على من دونهم واحتقارهم.
فحتى شريعة الزواج بدافع الخلفة حرموا منها، وأهانوا الدين من خلال زواج المتعة الذي فُرض على المنفيين بدافع إشباع غرائزهم، إلا أنه نسق احتقار للدين الإسلامي في الكثير من المواقف، حيث “كان الزواج صنيعة لقاء لبضع دقائق في غرفة مدخل الدير، لا يعرف سلطة القلب أو الدين أو العرف، بقدر ما يحقق مصلحة التكاثر وإشباع غريزة الجنس لمعذبين ومعذبات ضاقت بهم الأوطان، فرموا بهم إلى هذه الأقاصي البعيدة” موظفين آليات نفسية تغطي جرمهم وتبرر انتهاكهم لحقوق الإنسان وشحن أهلهم بالغل والحقد، ممّا تسبب ذلك في عقد نفسية لحقت الجزائريين لعقود من الزمن، من خلال اعتبار أنّ الآخر الغربي مركز التطور والحضارة والعربي خاصة الجزائري رمزا للهامش والدونية، لذا لا بد من الانتصار على هذه الإيديولوجية الظالمة ومعاداتها وإبادتها.
فعلاقة الشرق بالغرب علاقة مشوهة مهما حاولت القوى الإمبريالية صبغتها بصبغة التلاقح الثقافي، لأن جذورها راسخة لأبعد الحدود ولا يمكن بترها، وبالتالي تبقى مجرد علاقة تعامل متبادل.
رابعا: حوارية السياق السياسي والتداعي المعتم لأحداث التاريخ
يطغى على الخطاب التاريخي جانب التوثيق غالبا، لما للروائي من استحضار للأحداث التاريخية ومجرياتها واستنباط جوانب الشخصيات ومكامينها، وما تعكسها من جوانب نفسية، إذ تنزاح كفة التخييل على حساب التوثيق، وهو أمر مفروغ منه في الخطاب الروائي، فقد استقطبت وقائع رواية تيانو شخوص متباينة من عدة ألسن فرضت تفاعلا حواريا أضفى طابعا مفارقاتيا على الأحداث، حيث حاكى السياق التاريخي واستنطق الجانب الملغم فيه في ازدواجية إيديولوجية تعكس مدى التباين الحواري بين الشخوص الروائية وإيديولوجياتها، التي عادت بنا إلى فترة الحرب الفرنسية على الجزائر في فضاء تراوح بين البر والبحر، لتكون “الجزيرتان وجهتي المنتفيين على إثر عقوبات جماعية، صدرت عن محكمة قسنطينة constantine سنة 1873، في حق منتسبين لثورة المقراني، لكن نية إبعادهم عن الرأي العام، جعل الخيار يتوجه نحو ترحيلهم إلى (كاليدونيا) Nouvelle caledonie ” ما حتم على الروائي استجلاب التاريخ المهمش والمنسي الذي غيّبه السياق التاريخي ورصد تقلبات الحقائق المذاعة.
وقد تعددت أساليب الحوارية من تباين في اللغات ليس لفظيا، وإنما من خلال استحضار الوعي كحوار كل من القبطان مع عمار ويوسف وحوار إيريك معهما، وحوار الفرنسيين مع ساكنة كاليدونيا الجديدة، الباعث على التنوع الثقافي الذي أحدثه الفعل البوليفوني، والذي بدوره أضفى أبعادا جمالية ودلالية.
تمظهرت التداعيات الملغمة في المتن السردي التي أضفت حيوية على سير الأحداث، وكشفت عن مدى ترابط الاستعمار بالتمييز العنصري الذي تدعمه الحركات العنصرية المتطرفة، فنجمت عن ذلك أنساق كولونيالية طمست الهوية الجزائرية وأحدثت جوا من القلق والتشرذم، الذي عانى منه الجزائريون وأشعرهم بالاغتراب، وتفشي نسق الهيمنة في أقطاب العالم، وهذا ما جسده خطاب القائد هنري لجيشه المتواجد في كاليدونيا الجديدة ” إنكم هنا لتصنعوا مجد فرنسا في المحيطين الهادي والهندي، كما يفعل أبطالنا في شمال إفريقيا ليكون البحر المتوسط تحت سيطرتنا، من هنانستطيع حماية فرنسا”، فتعلق الجزائريين بوطنهم جعلهم يدافعون عن كيانه بحثا عن شبح الوطن الذي حُرِموا أمانه، فهروبهم من الموت أوقعهم في فخه مرة أخرى، لذا تراهم لا يهابون الموت، وهذا ما عبّر عنه أحد أهالي يوسف “لم أعد أكترث لهذا أو ذاك، أنا متُ يوم خرجت إلى هذه الحياة دون سند، ما عدت أهتم لأي شيء تراه يهدد حياتي”، فقد استباحوا الهلاك من كثرة الصدمات التي أخضعهم لها المستدمر ولاءً للوطن، بدافع إقصائي واعتقادهم أن الجزائريين شعب همجي غير منظم وهو جوهر النسق، لكنها ذرائع واهية تخفي الرغبات السلطوية للمستعمر التي تغزو إلى “إنتاج تمثيل انتقاصي عن الثقافات الخاضعة أو المنضوية” في المقابل يواجه الجزائري هذا الانتقاص بروح مضادة، ليتحول إلى مضاد للآخر الغربي، الذي همش كيانه واستباح دمه بدافع الظلم والاحتقار وأخضعهم لأنواع الذل، حيث قاموا بـ”تسخير الأهالي في ظروف لا تختلف عن العبودية في شيء”، فهذا الأبيض الذي يدعي الحضارة والتطور والإنسانية، لا يعترف إلا بأعرافه ومعتقداته ويرى الآخر دونه، لذا لا بد من بتر هذه السياسة أو بالأحرى الثقافة الكولونيالية، التي أغرقت العربي في ماضٍ مزيف يجب تعريته وكشف خطورته، مثلما فعلت العديد من الأقلام كالمناضل فرانز فانون الذي كرّس قلمه للدفاع عن الثورة الجزائرية، ورأى أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، لأن “محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما.. إن محو الاستعمار… إنما هو إحلال نوع إنساني محل نوع إنساني آخر، إحلالا كليا مطلقا، بلا مراحل انتقال” وبالتالي تتنوع الأصوات لفظية كانت أو فكرية بنبش غبار الذاكرة وموروثاتها وتقويض الحقائق المزيفة التي نشرتها الكتابات الفرنسية، ونبذ التعصب بدافع تنويري قابل للاحتكار، لذا سعى الروائي في هذا المتن إلى دحض أباطيل الاستعمار ورؤاه الخبيثة، التي سعيتُ إلى تفكيكها في قراءة تاريخانية تجمع بين السياق التاريخي والتأويل الرامي إلى خلخلة المضمرات وإسقاط نظام المركز المهيمن، وبالتالي إزالة القداسة ومخلفاتها.
خاتمة:
أسفر خطاب الذاكرة عن تصدع هوياتي وقطيعة إيديولوجية بين ضفتين غربية، استشعر الروائي إزاءها حوارية معبرة عن ثقافة كولونيالية استيطانية تجاوزت المحظور وثقافة جزائرية إسلامية تصدت لها في مشهدية سياسية، ورؤية ثورية حركت إرادة الشعب بدافع التغيير ورفض الدكتاتورية البيضاء.
وقد انبنى الطرح التاريخاني في رواية تيانو عزلة الأرض البعيدة، على طروحات تقويضية تعتمد التاريخ فضاءً أنثروبولوجيا وتسترجع الوعي المستلب، ومن جملة النتائج التي توسمتها دراستي:
الرواية حبلى بالإيديولوجيات المتباينة بتباين الثقافات وشؤونها السياسية والاجتماعية.
سيطرة البعد السياسي على الرواية لارتباطه بالسلطة وتفشي ميكانيزم الدفاع ضمن أحداثه وتطهير الفضاء الجزائري من مفرزات ما بعد الكولونيالية.
طغى على المجتمع الكاليدوني جدلية الصراع القائمة بين السلطة الفرنسية والمرحّلين الجزائريين والسكان الأصليين للجزيرة.
جسدت رواية تيانو التاريخ بأسلوب فني ينم عن براعة الروائي وفكره المتنوع.
دنّس الرجل الأبيض الفضاء الجزائري والكاليدوني بأنساق نُقشت في ذاكرة كل منهما وأحدثت تزييفا للواقع وإهانة للكرامة الجزائرية وتكريس سياسة الإلغاء والتطاول والتعذيب.
ففي جوّان المتن الروائي تيانو مفارقات حوارية مائعة تتطلب قارئا نَاهِمًا وآفاقا تأويلية منفتحة على التفاصيل التاريخية المغيبة والمتغيبة في ظل التابوهات الكولونيالية.