رائج
حسام شاكر يكتب قصة هرم صبور الذي توقف بصره فتحركت بصيرته
هرم صبور توقف بصره فتحركت بصيرته، فقد أقدامه لكن سار على آثار زحفه آلاف من الأصحاء أصحاب الأقدام المسرعة، استطاع أن يحول حياته من ظلام إلى نور، ومن ثبات إلى حركة، إنه الدكتور زكي عثمان أستاذ ورئيس قسم الثقافة الإسلامية بكلية الدعوةالأسبق – رحمه الله وطيب ثراه- الذي حضر إلى الدنيا في صمت ولأننا لانعبأ بذكرى علمائنا الأبطال فقد رحل في مثل هذه الأيام في صمت منذ تسع سنوات، فلم يحتفِ بذكراه إلا عائلته وما ندر من محبيه، وقد سألت نفسي لماذا أكتب عنه الآن، فقلت لعل دعوة تصيبه من أحد القراء فترفع درجته في الجنان، أو أحد الكسالى أمثالي يتذكر قصته فتكون دافعًا له في الجد والاجتهاد، وتحدي الصعاب.
أزعم أن الراحل يستحق أن يكون مادة تدرس في الصبر والكفاح في طلب العلم، فهو لايقل أهمية عن أي رمز مصري وإن شئت فقل هو هرم انقطعنا عن زيارته وذكره، ولمن لايعرفه فقد أصيب فى صغره بحمى شلت حركته وأفقدته بصره فصار في ليلة وضحاها، قعيد وكفيف، وقصة تترد على لسان الأهل والأقارب.. تلوكها الألسن، وتتبعها الحسرات والدعوات الملحة بأن يموت ويرحم والديه من العناء (يارب يموت ويريحكم) ، لأنه فى نظرهم صار عبئًا على أسرته، وبعد أن فشلت محاولات الأطباء في علاجه -عددت النساء عليه – ومن عادات أهل الصعيد أنهم يعددون على الميت الذى يفارقهم لكنهم هنا عددوا عليه وهو حي، يسمع نحيبهم عليه فيضحك ويتألم من قسوة الناس والأيام.
وظل حبيس المنزل أكثر من 15 عامًا والراديو جليسه وأنيسه نهل منه الثقافة والسياسة والاقتصاد والتربية وتعلم منه الإنجليزية من خلال برامجه وأخذ منه الطموح من خلال البعد الدرامي في شغف بمتابعة مسلسل الأيام لطه حسين فحلم أن يكون مثله، ولأن البصر يتوقف لكن البصيرة تتحرك فعندما كان يذهب أشقاؤه للمدرسة ويستمع للإذاعة المدرسية فإنه يفعل مثلهم على طريقته يُحضر جالون جاز أو لمبة مكسورة حتى تُحدث صدى للصوت مثل الميكروفون فينظم إذاعة متكاملة مع نفسه هو مذيعها وقارئ قرآنها وخطيبها ويفعل ذلك بصوت عال إلى أن اجتمع الناس حوله معجبين بصوته لكنهم توهموا أنه جُن أو فقد عقله، ثم جاءه الفرج عندما علم أنه يمكنه التقديم للاختبار في الأزهر والدراسة به ويدخل للمرحلة الإعدادية إذا اجتاز امتحان القرآن.
ورغم حديث الأهالي والجيران بأن التعليم لن يفيده فهو يحفظ القرآن ويكفيه أن يقرأ القرآن على المقابر إلا أن والده ساعده في تحقيق رغيته للالتحاق بالأزهر وفرح زكي كثيرًا لأنه سيسافر للقاهرة ويركب الأتوبيس لأول مرة في حياته وتخرج له شهادة ميلاد ويخرج من منزله الذي ظل حبيسه أكثر من 15 عامًا دون شهادة ميلاد، وكان الأزهر في مخيلته كما سمع في قصة طه حسين سيجلس على حصير أمام شيخ يمسك عصا ففوجئ عندما دخل لجنة الامتحان بكرسي من الجلد يجلس عليه فشعر بالسعادة ودخل الامتحان فاجتازه بامتياز لإتقانه في الحفظ، فالتحق مباشرة بالمرحلة الإعدادية وكان يذهب إلى المعهد إما محمولًا على الاكتاف أو زاحفًا على الأرض سواء في الصيف أو الشتاء ليتلقى التعليم بالسماع.
وفى الصف الثاني الإعدادي سأله مدرس الفقه ما الفائدة من تعليمك يا زكى!! اقعد في البيت أفضل لك من الزحف!! ولن تستفيد شئ من تعليمك!! فحزن من كلامه، ليس لما قاله لكن لأنه كان كفيفًا مثله، وأصر زكي المواصلة في العلم و تحويل حياته من الظلام إلى النور ولم ينس في حياته موقفين الأول: كان لرجل انتشله من الأرض في الشتاء وحمله بالرغم من تلطخ يدي زكى بطين الأرض ثم وضعه في الأتوبيس وطلب من السائق أن يهتم به، والثاني: عندما كان يخرج من الجامع الأزهر الذى اعتاد المذاكرة فيه فإذا بسيدة تساعده وتركبه التاكسي وفي اليوم الثاني تنتظره لتؤدي له أي خدمات يطلبها وظلت تسأل عنه لفترة وطلبت منه أن تقرأ له وتساعده لكنه تهرب منها لأنه لا يريد أن يكون عبئًا على غيره.
لقد ناضل الهرم الصبور حتى التحق بكلية أصول الدين فحصل فيها على 2 ليسانس وليس واحد أحدهما في الدعوة والآخر في التفسير، ثم الماجستير وعندما طلب التعيين رُفض لظروفه الصحية فكانت صدمة له إلى أن وجدت ضالته في اتصال تليفوني لبرنامج إذاعي كان ضيفه رئيس جامعة الأزهر فشكا له حاله، فرد رئيس الجامعة يابني نحن نتعامل مع العقول ولا نتعامل مع الأجساد وبعد هذه المكالمة التحق بالجامعة مدرسًا مساعدًا.
وحصل على الدكتوراه ثم الأستاذية وألف أكثر من 30 مؤلفًا علميًا ودينيًا، وأشرف على العديد من الرسائل العلمية وعاش فى الدنيا لا يملك من زخارفها إلا حجرة صغيرة في حي شعبي بمنطقة حدائق القبة، تمتلئ بأرفف الكتب، ينام بينها على سريرٍ صغير، ومنضدة تحمل عددًا من الكتب، وجهاز تليفون وتليفزيون صغير، وفى الزاوية كرسي خشبى لتلميذه –المرافق له – ثم ترك الدنيا والبسمة قد ارتسمت على وجهه فهو الكفيف الذى علم المبصرين والقعيد الذى مشى على نهجه الأصحاء من العلماء والعظماء .