الـعـفـو عن المسيء
✍عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
مجتمعنا تسوده معاني المحبة والألفة، ومن مؤشرات الرحمة والتراحم بين أبنائه خلق العفو، ومراعاة المسيئين وكسبهم، وستر مساوئهم، وغفران زلاتهم، ومن حق المظلوم أن يعاقب الظالم بما هو أهله، وبما يتناسب مع صنيعه، {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها}، إلا أن العفو والصفح أقرب وأرحم على أن لا يدفع إلى زيادة الظلم والتمادي فيه، وفي نفس الآية وبعد هذا مباشرة يقرر الحق جل شأنه {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}، ثم يبين عز وجل خسران الظالم وابتعاده عن محبة الله {إنه لا يحب الظالمين}
وكلما صدقت المشاعر النبيلة تجاه الآخرين زاد ذلك في زيادة التمتع بها وتلذذها، وهذا كفيل بتنميتها في النفس.
والرد الجميل للفعل السيء يكون ابتغاء لمرضاة الله تعالى لا مرضاة من أساؤوا، وفيه من الفوز بعفو الله الشيء العظيم، فكم لنا من السيئات التي نرجو من الله أن يغفرها لنا، فلنسع إلى ذلك بعفونا عن الناس، ومع نعم الله التي تتوالى علينا نقوم بجهل منا بارتكاب السيئات الكثيرة في جنب الله، فلا نُكبر في أنفسنا ما يحدث من إساءة لنا من قبل من أحسنا إليهم.
والعفو فيه منازعة للنفس ومجاهدة، ويتبعه أجر وثواب حين يقطع سورة الغضب، وينجو من خطر التجاوز، فيكلؤه الله وتنعطف القلوب إليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا).
والصفح ليس في كل الأحوال هينا على النفس، بل قد يكون صعبا مؤلما، يتجرعه المرء راضيا رجاء ما عند الله من حسن الخلف، فإذا كان المسيء من ذوي المودة والإحسان والصلة فذلك أولى أن ينال طيب الصفح وحسن العفو.
قال الفضيل بن عياض: احتمل لأخيك إلى سبعين زلة، قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي…؟ قال: لأن الأخ الذي آخيته في الله ليس يزل سبعين زلة.
قال الشاعر:
سامح أخاك إذا خلط
. منه الإصابة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه
. إن زاغ يوما أو قسط
واعلم بأنك إن طلبت
. مهذبا رمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قط
. ومن له الحسنى فقط
وأعلى الناس مكانة ومرتبة من واجه القبيح بالجميل، ورد السيئة بالحسنة، فيقابل من يجهل عليه بالحلم عنه، فمقابلة الخلق الحسن بالإحسان مساواة في الأخلاق، أما الفضل فالارتفاع والسمو في التعامل والمكافأة، وهذا ما يوصل إلى سكون القلب ودعته وعدم تكدير النفس.
قال الشاعر:
فهبني مسيئا كالذي قلت ظالما
. فعفو جميل كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو عندك للذي
. أتيت به أهلا فأنت له أهل
أقبل الشعبي يوما فإذا برجلين من قومه من وراء جدار قصير، فاستمع إليهما فإذا هما يقعان فيه ويشتمانه وينتقصانه حتى أكثرا، فلما أطالا أشرف عليهما وقال:
هنيئا مريئا غير داء مخامر
. لعزة من أعراضنا ما استحلت
فقالا: والله يا أبا عمرو لا نقع فيك بعد اليوم.