مداراة وخصومات
✍عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
مداراة السفهاء وضبط النفس يحفظ على المرء مكانته واحترامه أمام الاستفزاز والإثارة، ولكن ذلك لا يستدعي قبول الدنية (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما. إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا).
والخصومات تقود راكبيها في أحيان كثيرة إلى اقتراف أمور بسيطة إلا أنها تسقط المروءة، كما تقود كذلك إلى كبائر تؤدي إلى غضب الله وسخطه، وهذا مدخل للشيطان يقدم عليه المرء بإرادته ورغبته فيمتع الشيطان برؤية نيران العداوة والبغضاء وهي تستعر في القلوب، فتفاوت البشر الناتج عن اختلاف الطبائع والأمزجة والاهتمامات لا يستلزم الفتنة والعداوة وإحداث الإساءات وقطع المودات، فالله جل شأنه لا يرضى أن تؤول روابط المسلمين إلى ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا).
والجدال يدفع إلى أن تستبد بالنفس أحوال تغري بتصيد الشبهات، واختيار العبارات التي تظهر حب الانتصار للنفس، فتقدم على إظهار الحق وتزيد من حدة العناد بصورة لا تبقي للحقيقة مكان، قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).
قال الشافعي: ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته، واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني.
فلا يكون الجدال عن خصومة، فإنها منبوذة وتدفع المرء إلى الغضب والتجني، ويكون منها فرح كل واحد أن يزل صاحبه في الكلام، ولها في القلب شغل عظيم.
ومن اتخذ الجدال ديدنا، وقد أعطاه الله قدرات في التعبير وتحوير الكلام، فإنه يسعى لأن يظهر نفسه بمظاهر الكمال، فتراه يجتهد دائما في إثبات صحة كلامه، وسلامة تصرفاته، وقد يدفعه ذلك إلى تبرير الباطل، والاستماتة في رد أي معارضة أو مخالفة، فيكون الاتجاه فقط إلى الانتصار على الخصم لا الوصول إلى الحق.
وهناك من تكون كلمات السوء على ألسنتهم أسرع من كلمات الخير، وقد تعودوا على سوء التعبير عما يريدونه من معنى، ويجدون صعوبة في التأني، وأمثال هؤلاء يحتاجون إلى تعامل حسن يردهم عما هم عليه، ويوجههم إلى الأخذ بالتي هي أحسن، وهذا يحتاج إلى التحلي بأمر عظيم وهو الصبر الذي لا يستطيع من فقده أن يكتم غيظه، أو يملك جوارحه، ومن كان له نصيبه الأوفر من الصبر سهل عليه تدارك أمره، والنجاة من حبائل الشيطان {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن}
والشدة في الجدال والعتاب وإظهار الغضب فيه ظن أن ذلك يحفظ المكانة، ولا يسقط المنزلة، ويبقي صاحبها هو الأرفع، فتجد من هذا ظنه عند تعرضه إلى تقصير من أحد أصحابه يهدر كالبحر الهائج، وربما كان ذلك لتأخر بسيط، أو زلة من زلات اللسان التي لا ينجو منها أحد.
ومعاتبتك أخاك على خطأ صدر منه إنما هو نصرة له كما قال عليه الصلاة والسلام : (انصُرْ أخاكَ ظالِماً أو مَظلوماً، قالوا: يا رسولَ الله، هذا ننصُرهُ مَظلوماً، فكيفَ ننصُرهُ ظالِماً…؟ قال: تأخُذُ فوقَ يدَيهِ). وهذا باب من أبواب النصيحة، فإذا حدث منه تقصير أو تعد فيجب على إخوانه نصحه وحجزه عن السقطة التي وقع فيها أن يسقطها مرة أخرى.
وكم من الأصحاب يكونون على صلة أعوام عديدة، ولم يكن لهم دور في إصلاح أخطاء بعضهم بعضا، وكأن الأمور شخصية وخاصة جدا ولا يمكن المساس بها، كما أن الواحد منهم يخشى إن ذكر العيوب أن يغضب صاحبه ويتغير عليه.
بل إن الصادق في أخوته وصحبته لإخوانه يحرص على نقائهم، ويألم إذا بدرت منهم بوادر لا يرتضيها المسلم صغيرة كانت أو كبيرة .
صحب عبدالله بن المبارك رجلا سيء الخلق في سفر، فكان يحتمل منه ويداريه، فلما فارقه بكى، فقيل له في ذلك فقال: بكيته رحمة له، فارقته ومعه خلقه لم يفارقه .
والعاقل يعلم يقينا أنه لا يمكنه أن يجعل الناس طوعا لما يريده، فلكل واحد نفس وهوى وإرادة.