اللُقمة تزيح النِقمة

✍ صالح الريمي :

في طفولتي، كانت جدتي رحمها الله تبيع الحناء على الجيران وفي الحارات القريبة من حارتي “حي السبيل”، وكنت أرى كرمها حيث لا ترد محتاجًا وتسلف كل من آتاها يطلب قرضًا حسنًا، وكانت كريمة مع أبي رحمه الله لشدة فقره وكثرة عياله، فكلما أحتاج إلى الفزعة من إيجار أو مصاريف، أتاها فلا ترده خائبًا بخفي حنين..
حتى أنا لا أنسى فضلها علي، فقد كانت تعطيني مصروف المدرسة من بداية دراستي حتى يوم وفاتها رحمها الله، وأنا في الصف الأول الثانوي، وعندما كبرتُ عرفتُ معنى ثقافة الإنفاق، وكيف أن اللُقمة تزيح النِقمة، وبالرغم من أني قرأتُ الكثير عن فضائل الإنفاق في سبيل الله وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة، إلا أن الخبر ليس كالمعاينة، وهذا الجميل في قصة جدتي رحمها الله حيث كانت في أيام الشتاء الباردة تسلق البيض أو تعمل شطائر “ساندويش” فولٍ وتوزعه على العمال وبعض المارة بالشارع.

ومن هذه الثقافة أنقل لكم قصة جميلة بتصرف مني، أرسلتها لي إحدى القارئات عن جدتها، تقول فيها: عشتُ وأنا صغيرةٌ لفترة مع جدتي التي رزقها الله حكمةً فطريةً وإيمانًا عميقًا؛ كانت تمر بالبيت ظروف صعبةٌ مثلما يحدث في بعض البيوت، ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت أثناءها إلى أن تمر الأزمة بسلام، وفي يومٍ لا أنساه، مرت جدتي بأزمةٍ لم تكن في الحسبان؛ إذ نزلت إلى السوق لتشتري حاجيات فضاع منها كيس نقودها؛ فعادت نحو دولاب الملابس لتخرج آخر ورقة نقود هي كل ما تبقى لمصاريف البيت كله.

أمسكت بي، ثم التفتت إليّ بحماسةٍ تطلب أن أنزل لشراء عشر بيضاتٍ وربع كيلو عدس، فظننتُ أنها ستطبخه لنا، لكنها أخذت تطبخ العدس في استغراقٍ وإتقانٍ، وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر البيت، وسلقت البيض، وسخَّنت بعض أرغفة الخبز، ووضعت الملح والفلفل في ورقةٍ صغيرةٍ، ثم أخذت كل هذا ونزلت الشارع، وأعطته لبعض فقراء الحي..
كدتُ أُجن؛ فقد نفذ كل ما عندنا من مالٍ، وكدتُ أصرخ عليها: “على الأقل، كنتِ أعطيتني بيضةً واحدة”، ثم رجعنا إلى البيت قُبيل العصر، ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت، استيقظنا على صوت طرقٍ للباب، فتحنا الباب، فإذا بولدٍ ممن يبيعون بالسوق يسأل جدتي: “هل هذا هو كيس نقودك يا حجة؟”.

فقد سقط كيس نقودكِ أمام محلي، ولما حاولت اللحاق بكِ تُهت مني في زحمة السوق، ولأني أمينٌ واخاف الله، فقد سألت الباعة حولي عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا التي تأتينا كل أسبوع إلى السوق؛ فأرشدتني إحدى البائعات إلى عنوان منزلكِ، وهذه أمانة أوصلتها إليكِ بسلام..
وتكمل المرأة القصة حيث تقول: ولم تمضِ ساعةٌ حتى سمعنا صوت طارقٍ آخر؛ فإذا بصديقٍ لخالي عاد من سفرٍ جاء ليرد دَيْنًا عليه لخالي منذ زمن، اقترضه قبل السفر، مع هدايا وحلويات، ويومها قالت جدتي: “يا إبنتي.. “اللُقمة تزيح النِقمة”، وكلما أحسستِ بضيقٍ أطعمي فقيرًا أو محرومًا”..
تقول المرأة صاحبة القصة، قلتُ لجدتي ضاحكةً: “ألم يكن هناك طعامٌ أفضل من العدس”، قالت جدتي: “العدس من الأطعمة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم لبركته، كما أني أحب العدس؛ وأفضل الصدقات أن تتصدقي بما تحبينه من الطعام، وقدمي للناس ما تحبينه من طعامٍ فيجعل الله البركة في طعامكِ وشرابكِ.

*ترويقة:*
التعامل مع الله تجارةٌ رابحةٌ، فمن تعامل مع الله عرف كرمه ولطفه ورحمته، لذا عندي يقينِ أن من عاين كل هذا، فسوف يجد أن “اللُقمة تزيح النِقمة”، وكيف أن الله يستر أسرةً بسيطةً عبر سنواتٍ طويلة بصدقتها، وكيف أن يعبر بهم نهر الحياة في بساطةٍ وبركةٍ ويسر، “فتصدقوا ترزقوا”.

*ومضة:*
قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: {أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ}.

*كُن مُتََفائِلاً وَابعَث البِشر فِيمَن حَولَك*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى