محمل الخير واسع
✍عبدالرحمن بن عبدالله اللعبون :
اللسان سهل الانطلاقة كثير الحركة، يصول ويجول في كل موضوع، وكثيرا ما يتلفظ بكلام لا ينبع عن وعي وترو، وهذا ينتج كلاما غير متزن فتخرج كلمات غير مقصودة على حقيقتها، أو تكون زلة لسان لا يعنيها قائلها، ولا يسلم أحد من هذا الأمر، فمن أراد أن يتتبع لأصحابه سقطات الكلام فإنه سيملأ سجلات، وهو كلام تملأ به المجالس، فلا تجعل منها مثار حنق وغضب.
مما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا.
وكان الشافعي رحمه الله يقول: من أراد أن يقضي الله له بالخير فليحسن الظن بالناس.
وقال بعض الحكماء: لا يفسدك الظن على صديق أصلحه لك اليقين.
فبعض الأمر تصلحه ببعض
فإن الغث يحمله السمين
ولا تعجل بظنك قبل خبر
فعند الخبر تنقطع الظنون
وقال تلميذ الشافعي الربيع بن سليمان: دخلت على الشافعي وهو مريض فقلت له: قوى الله ضعفك.
فقال: لو قوى ضعفي قتلني.
فقلت: والله ما أردت إلا الخير.
قال: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير.
تأمل يا أخي هذه الكلمة الأخيرة (أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير) وانظر ما فيها من معان وفوائد.
قال ابن الرومي:
فعذرك مبسوط لذنب مقدَم
وودك مقبول بأهل ومرحب
ولو بلغتني عنك أذني أقمتها
لدي مقام الكاشح المتكذب
فلست بتقليب اللسان مصارما
خليلا إذا ما القلب لم يتقلب
وإن أتاك منهم السوء البين فترفع عن الهاوية التي سقطوا فيها، فما أكثر ما تبتلى وتمتحن.
قال أبو الدرداء: إن قارضت الناس قارضوك، وإن تركتهم لم يتركوك.
قال أحدهم: فما تأمرني…؟
قال: أقرض من عرضك ليوم فقرك.
ووصى بعض الحكماء ابنه فقال: يا بني إذا سلم الناس منك فلا عليك ألا تسلم منهم، فإنه قلما اجتمعت هاتان النعمتان.
بل قد تكون أنت المقصود بعينك بكلام لا تقبله، فاعذر أخاك ولا تنزلق معه فتسقطون معا، وكن ثابتا كي لا يستمر هو في انحداره.
أسمع رجل أبي هبيرة فأعرض عنه فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض.
وقال شبيب بن شيبة: من سمع كلمة يكرهها فسكت عنها انقطع عنه ما يكره، فإن أجاب عنها سمع أكثر مما يكره.
قال الأحنف بن قيس: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه.
وقد يكون ذلك ليد بيضاء سابقة يلزم الوفاء لها ومراعاة حرمة جميلها، ووفاء لخير غامر، وتذكر لسابق عهد.
قال منصور التميمي:
إذا ما الصديق أساء مرة
وقد كان من قبلها مجملا
حفظت المقدّم من فعله
ولم يفسد الآخر الأولا
فالكريم الذي لا ينسى حسن المعشر وإن تقادم عهده، فينصف أهل الفضل من نفسه، ويتفضل على أهل النقص.
إن الوفاء على الكريم فريضة
واللؤم مقرون بذي الإخلاف
وترى الكريم لمن يعاشر منصفا
وترى اللئيم مجانب الإنصاف
قيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك…؟
قال: لم أخاصم أحدا إلا تركت للصلح موضعا.