نبض الثورة في ظل قوافي مدينة المرجان” الطارف”

بقلم : البروفيسور عواطف سليماني

 

اجتمعت قرائح النظم في الملتقى ألمغاربي الأول للشعر الشعبي، لليوم الثاني من 21 أوت 2023، اجتمعت على نبض الثورة وسحر الكلمة في مدينة المرجان” الطارف”إذ تجمل هذا اليوم بافتتاحية زجلية للشاعر والزجال القدير: توفيق ومان، لتتلوها قراءات شعرية متنوعة الطبوع والمواضيع، استمتع بها الجمهور المتلقي على اختلافها الثقافي وإجماعها الجزائري وألمغاربي، بين التكامل والتضاد في شعرية الإبداع بطريقة علمية.

تفردت مشاركات هذا اليوم بطابع العمق في الدلالة ، والسلاسة في الكلمة، والقوة في الموسيقى، في بعض الحالات عمد الشعراء إلى ركوب موج التحدي وإعلاء سقف النظم، حيث عاشوا وعايشونا متعة الوجد، والفخر، والصبابة، بمزجهم العجيب والمتفرد بين اللهجات المحلية، اتزنت صورهم الشعرية، وتراتبت صيغهم الجمالية، حتى في إبداع الذات الأنثوية والذات الذكورية، مابين التصريح والتلميح.

مفاجأة اليوم صنعتها الموافقة والمسايرة الشعرية بمعنى المجاراة، مع احتفاظ كل شاعر بالمعني دون النقض قدر الإمكان، شحنت النصوص الشعرية فتحولت إلى حلول كلامية، وارتقاء عرفاني، في ذات الزمان والمكان، لإظهار التحدي واحتواء المتلقي.

شاعرة وشاعران، ثلاثة عقدوا مساجلة الغزل، والفخر، والهجاء، أدار الجلسة رئيس الجمعية الجزائرية للأدب الشعبي الشاعر: توفيق ومان وبكل اقتدار وحنكة قال: اكتمل عقد اللآلئ، شاعرة وشاعران يتصدرون فن المجاراة لهذا الملتقى، يحضرون بيننا في مساجلة صوتية وبث مباشر عبر القنوات الإعلامية، فرسان المضمار بمدينة المرجان” الطارف”هذا يومكم أقيموا حججكم، وهاتوا بيانكم.

ألقى كل شاعر من الشعراء افتتاحية مساجلته ببضع أبيات لإحماء اللقاء، كان أمامهم دقيقة واحدة ليلقي كل شاعر ويرد عليه الآخر على نفس القافية والوزن، ثم استأنف رئيس الجلسة الشاعر: توفيق ومان الكلمة ليسن معايير التحكيم بين الشعراء، على أن تأتي المساجلة على نفس القافية والروي والبحر والموضوع، وأن لا تزيد أبيات القصيدة كل شاعر عن عشرة أبيات، ، كما طلب السيد توفيق ومان من شعراء المساجلة بداية أن يبدؤوا السجال ثلاثة أبيات بثلاثة أبيات لكل شاعر حتى يستقطب انتباه الجمهور.

بين حرفي اللام والنون يقول له كن فيكون، كانت عويشة بوزرية بومدين حاضرة بقصيدتها عن الهجران والشوق للقي الحبيب، متصدرة بحرف النون واقفة عند حرف اللام:

كف سوال الوين عندك لا تحصل

خلي الوين لوينها ساعة تتهان

وأمهلني يا صاحبي ساعة العقل

وعقلني هذا العقل عاف المكان

ساعة تشوف الراذي في القبة واصل

يحلفو براسه كذب  وبهتان

ساعة تسمع خبارهم القلب إيمل

عوجة فذ الزمان تصحاح وتسمان

والصحيحة كيف الصوفة في مغزل

باشمها موذي وغازلها منان

أش تعرف أنت نسيج لبومهمل

الغرزة هاملة والمنسج عيان

وتقطع جربي الحيا من كان أيدل

يحسراه عليك يا ذاك الزمان

ما تفرق في جيلهم طفلة من طفل

وتخلطت أصاحبي فذ الشبان

النقال والفضايح والدين انحل

والمفتي خاطي يفقه بطلان

العاصفة ضاربة الناس الكل… ما نشملش من احرز عرضه صان

رقصت الشاعرة عويشة بوزرية بومدين على أنغام الوزن، لأن أجود الشعر أكذبه، مجاراتها للشاعرين جمال ومحمد، زيادة في رسم القيود حولهما، إذ ألزمتهما بتجربة خاصة في السياق والمقام الواحد، الجميل في قصيدة عويشة عزة النفس في تلقى سلام باهت ، سلام جبر الخواطر من محبوب بعيد، يأتي بالحجة والجفاء منضوحا نائيا عن محبوبه، ثم تطلب الراحة في استدراك الأمر وفهم السبب، هنا تتبدل الأحوال وشواغل مجتمع اليوم(والصحيحة كيف الصوفة في المغزل) لكننها تجعل القضية يقينا، بأن جيل اليوم ابتعد عن أصله وعاداته وتقاليده حتى احدث شرخا في هويته.

لن يتأخر عنها الشاعر جمال جلالي بالرد، معلنا أن الشعر عنده نهر مجازات ودفق مجاراة، استعار الكلمة من رحم أللآلام لأنه لم ير نفسه في مرآة النبض العاكسة لنضمه، لم ير مسحة الحزن الشاكية الباكية المؤثثة لمقطوعته الشعرية، والقصية عن التفاؤل يقول:

ين الوين ***

شـوف الدنيـا حالها كيف تبدل

ما بقات محبـة و لا صحبـة كي كان

الجار لي كان على جارو سول

لا من سـال عليه تسـدت البيبان

ويـن صيلت لرحام حدث لا تخجل

ويـن الخاوة ويـن عادات الجيران

وين النيـة ويـن كلـش راه رحل

هذا من هذاك يا قاري لمان

وين لمة لحباب يا زاير انزل

مرحـب يا من جيت قاصدنا نيشان

وين الحرمة و الحيا رايح ويقل

راهي غير تزيد النية تشيان

ويـن بنـت لعراس بالفرحة تكمل

وين اللُحمـة وين بنت رمضان

وينهم القعدات قعدة ما تتمل

متمني يا صاحبي لو راني غلطان

وين التاجر كان يوفي و يكيل

راه اليوم حلاف يطفف  الميزان

لـو نعد ( الوين ) دهر وما تكمل

حيرني ذ ( الوين ) من بالي تعبان

استدعي الشاعر جمال جلالي مفردات قاموس التراث لغاية وظيفية أساسها الردع بالألم، وهي ميزة لونت قصيدته المتفردة، في سياق الحزن على ما فات من الزمن الجميل، كان الشاعر جمال جلالي، يرسم بكلماته كل شبر من حياتنا ، وكل شكل من أشكال عاداتنا، لتتولد لديه مرحلة الشك والسؤال بهتك ستر حقيقة اليوم(وين الحرمة و الحيا رايح ويقل… لـو نعد ( الوين ) دهر وما تكمل … حيرني ذ ( الوين ) من بالي تعبان)

أما محمد نعيمي فقد انعم أسماعنا بوصف أحوال الناس وصفا عائده على بادئه، جعل صفة الشاكي لموصوف غائب تتكشف المعنى ودلالة البيت، لم يفت الشاعر محمد نعيمي توظيف صيغة الاستفهام الضمني(وشي من؟)في سردية حوارية شاعرية، وإن كان لم يجب عن تلك الأسئلة، فقد وصف القصة والمشهد ولم يحلل عقدته، منذ البيت الأول إلة نهاية المقطوعة الشعرية.

شفت سيف الوين اليوم اتسل والمخفي من الوين ظهر وبان

ومن ويل الدنيا شاكي منها كل حتى أنا من ويلها جبرتوني زعفان

فاض الڨلب للوطى راه احمل واش يسكت عين دمعتها ويدان

الحيلة والشر منسجهم مغزل واللاهف لبدا للطمعا عطشان

ذا عايش سيف ذاك عيش ذل وشي من يرجى من الحال يبان

شي من حرم وشي من حلل وشي من يفتي بالوجه لوان

وشي من قاري وبالعلم اجهل وشي من فاهم ذ الدنيا فان

وشي من شي حاشا لا نجمل وك ساس الرملة لا يعلي بنيان

ما نشبه ذبان لخلية نحل ومن عز النفس حاشا لا يتهان

منسجنا بالخيط راه اتخبل راس الكبة خفى

تعود المساجلة والمجاراة إلى لسان عويشة:

وتغير لون الصفا راه تبهدل

طير الحر تراكمت عنه لمحان

العازب دار الحيا في جيب أكحل

والعازبة كملت باكي دخان

الولد ليماه يشتم ويصقل

واش درتيلي إنت عرة نسوان

هذ الكلمة قالها والعقل أهمل

والخافي عارفه عالم لكوان

حتى من الذر حدث ولا تخجل

كي تشوف فعاله متوحد الرحمان

طاح قدر المربي والضرب استفحل

والبوجادي سارح شمر النيبان

آخر الزمان شفنا عجب متلتل

الشاوي بائع والبايع ديان

هاقولولي كي ندير وكي نعمل

واش من كفة راجحة تضبط اوزان

بقيت انا والوين نربط ونحل

ونفتش عن حالهاكيفن كان

كان بديت الحديث عمره لايكمل

القعدة قانه والحكمة ميزان

كان كبير العائلة مشورة منهل

كان خطيت عبار لخطايا كيسان

كانت الحومةضاوية زاهية محفل

رغم القلة والقلوب شارية امان

كانت العين من ختها كبيرة تخجل

والقلب مع خوه يتقاسم لحزان

واليوم كي تخلطت وبان المشكل

هات الوين لويلنا تهدا نيران

حاولت الشاعرة عويشة التفرد بتقمص كل الأدوار في المرحلة الثانية من هذه المجارة ، تقمصت دور الحكواتي الناصح، ودور الأب المهمل، ودور المرأة المتخاذلة، و دور الأبناء العاصون، من متجر الفحولة استعارت(هاقولولي كي ندير وكي نعمل… طير الحر تراكمت عنه لمحان)، ها هي الشاعرة عويشة تشد العبارة بلغة بارعة، موضحة سحر النظم لديها ، نظم منمق كالحكم وليس بالكلام العادي، لقد برعت في الخروج من عنق أكذوبة الشعر، ولبست ثوب حقيقة الشعر وصدقه، عندما تقف عن قفلتها:

واليوم كي تخلطت وبان المشكل

هات الوين لويلنا تهدا نيران.

يشحذ الشاعر جمال جلالي صمته ويصدح بصوت جهوري تتمة لمجاراته حتى كأن الجمهور يرتل معه  كل سطر، السطر الذي حوله إلى لازمة، لغاية التأكيد على أفكاره، بات ينفث روح العزة والكرامة في المتلقين، وهي كلمة أريد به ذلة ومهانة عند البعض، تعتبر بداياته استرجاع للقيم، خاصة أنها جاءت حافزا لكل مهزوم:

ما شافت عينـي الراجل ينذل

كيما وقت اليوم بلا سبة يتهان

الجاهل قدمـوه في الصف الاول

و العالم تلوه من تالي ما بان

الجايح داروه مضرب للمثل

و الساجي ردموه لمثالو عنوان

مانيش نعمم ما قلناشي كل

حاشى من صدقو خافو من الرحمان

رحمة ربي كاينة علينا تنزل

لا تجعلها غتبة و يا عظيم الشان

راه القلب مريض لجوابي عجل

جاوبني يا صاحبي خيك تعبان

يتفاجى ذ الخاطر وعليك معول

صبرني يا شيخ نسيني لحزان

ما عادش كي كان ما عُدش نحمل

خبرني يا صاحبي وين أيام زمان

ترجيتك بالله صحيني عقل

عقلي من عقلك للعاقل ميزان

وإذا قلت هبيل خليني نهبل

تهدفلي سعات ياسر من لمحان

القصيدة تعبر عن الفعل الإنساني البعيد عن المثالية، ويتساءل فيها الشاعر إن كان الواقع ماهو كائن أم ما يجب أن يكون؟ حتى يأتي القصيد عنده فجأة في لحظة إلهام، ويكشف العلاقة بين الممكن والواقع، لهذا فهو يعتز بما كتب.

 

 

يا عاقل عقل اعقلها واتوكل

واقرأ ف المنزول تلقالك برهان

كل من سال حاشا لا يهمل

وحديث النادم اه يا لوكان

شاو الدنيا من قبيل تتبدل

ومن شاوها ما فيها لامان

سباب غلبتنا اغلبنا ذا الجهل

ومن جهلنا تركنا كتاب الفرقان

لا تلوم الساعة دقايقها تكمل

تاليها حفرة وشي مقطع كتان

ماني بحديث نهجي لا نغزل

غير كلام جاني على طرف لسان

خايف ذ الڨول كي عيطا يتمل

ويقولو ذا ماهو لا بهتان

في اثنين وعشرين ذ النضم اكمل

بعد العشرين في لول شعبان

الشاعر محمد نعيمي يلتحم بقصيدته ويضغط نفسيتها بشكل جميل، لا يتسم بالغرور في النظم، بل له من البشاشة وخفة الدم ما جعل سطور أبياته خفيفة الوقع على السمع.

شعراء هذه المسجلة جمال جلالي، عويشة بوزرية بومدين، محمد نعيمي ينشغلون بمصادر قصائدهم، يغادرون المكان بأجسادهم ويتركون الكلمات بأرواحها تسكننا، هذه الروح التي طغت على قصائدهم فحولت المعنى وقوضت المبنى، مقابل تأكيد الدلالة تتحلق الكلمات كموجات صوتية فوق سطح بحيرة، وتتردد في الأذان بين الحين والآخر، قصائد مشغولة بالتحول الحداثي وطرق تشكلها، قصائد خرجت عن النمط الكلاسيكي ولازمت الحياة اليومية بكل تغيراتها، قد تتعثر بعض حروفها عن العزف، لكن خط سير كلماتها يبقى متزنا، بكل الحالات تحاول الإفصاح عن المسكوت عنه، ومدى تلقيه لدى القراء، ثنائية الأنا والآخر تحضر بقوة في مبناها، وهذا ما صنع حوارية النسيج الداخلي والخارجي لها، تشاكل وتباين المفردات فيها صنع من الصور الشعرية لهؤلاء الشعراء تنوع الجمالية في كتابة النصوص، وحتى والإلقاء وهو تنوع في البصمة الوراثية لهذه الذوات المبدعة شعرا.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى