روسيا: ليس تمرداً عسكرياً.. ولا حربا أهلية.. مجرد زوبعة في فنجان وهنا اخطأ قائد فاغنر
رامي الشاعر
انتهت أزمة “فاغنر” التي شغلت العالم طوال الأربع والعشرين ساعة الماضية، فيما اتفق الطرفان على مغادرة بريغوجين إلى بيلاروس، وإغلاق القضية الجنائية بحقه.
علاوة على ذلك، فإن بعض مقاتلي “فاغنر”، ممن رفضوا منذ البداية الانخراط في “حملة”بريغوجين، ستتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع، دون أن يخضعوا لأي ملاحقات قانونية. كما نص الاتفاق على عودة قوات “فاغنر” إلى معسكراتها، فيما سيوقع الجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المقار والمعسكرات اتفاقية مع وزارة الدفاع الروسية.
لقد تلقيت اتصالات مكثفة يوم أمس من الأصدقاء ومن عدد من وسائل الإعلام حول العالم، تحمل كثيراً من القلق والاستفسارات عن حقيقة الوضع في روسيا، وما إذا كان ما حدث يرقى لكي يكون “تمرداً مسلحاً” أو أنه خطوة نحو “انقسام ما” في القوات المسلحة الروسية، أو لا قدر الله “حرباً أهلية”.
أقول إن ما حدث ليس سوى “زوبعة في فنجان”، و”أزمة عابرة”. فلا هو تمرد، ولا عصيان، ولا حتى قلاقل وتوترات في الجبهة الداخلية الروسية كما تمنّت وسائل الإعلام الغربية، وفتحت بثاً مباشراً من “أرض المعركة”، معلنة قيام “الحرب الأهلية” في روسيا، وأفردت مساحات ضخمة لمجموعة بائسة من الخبراء “الاستراتيجيين” و”العسكريين” وكل أصناف “الإعلاميين” المأجورين، ليتحدثوا عن تفاصيل “الانقلاب على بوتين”!
اليوم، وبعد أن انتهت الأزمة، أود الإشارة إلى أن ذلك التصرف، وبناءً على فهمي لطبيعة شخصية الأمة الروسية التي قضيت ولا زلت أقضي عمري كله بينها، لم يكن سوى إحدى طرق التعبير عن المشاعر بعواطف عاصفة جارفة تجاه الوطن الأم روسيا. فالسيد يفغيني بريغوجين، وقبل أيام فقط من اندلاع تلك الأزمة، تمكن ومجموعته “فاغنر” من تحرير مدينة أرتيوموفسك (باخموت الأوكرانية)، وكان يرى من وجهة نظره أن ذلك سيفتح الطريق نحو مزيد من الهجوم والاستفادة من تلك المكاسب الاستراتيجية على الأرض.
لكن رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال فاليري غيراسيموف، الذي يمسك بمفاتيح الحرب لا المعارك الصغيرة، لديه وجهة نظر أخرى، أظن أنها تتعلق باستنزاف العدو لأقصى درجة، والحفاظ على أرواح الجنود والمعدات، وهو ما يتحقق على الأرض، ويحقق نتائج مبهرة في صد الهجوم الأوكراني المضاد.
من هنا اصطدمت المشاعر بين الحب الجارف لروسيا والمشاعر المتقدة في أرض المعركة لبريغوجين، وبين الحكمة والتروي والحصافة وخصال رجل الدولة العسكري العتيد غيراسيموف. ربما أخطأ بريغوجين في التعبير عن مشاعره، وعما يظنه “تلكؤاً” في إيقاع المعارك، أو ما صرح به من “نقص في الذخيرة لمجموعته”، إلا أن أحداً من الرجلين، أو من مجموعة “فاغنر” لم يفكر في الإضرار بروسيا، أو بوحدة جبهتها الداخلية، لا سيما أن “فاغنر” تستقبل، في المدن المحررة، استقبال الأبطال، الذين حرروا تلك المدن من فلول النازيين الجدد الأوكرانيين والمرتزقة الأجانب. كذلك فإن الآلة العسكرية لمجموعة “فاغنر” مجهزة بالآليات والمعدات العسكرية بالتنسيق والترتيب مع القوات المسلحة الروسية، وتخضع لأوامر الجيش الروسي ووزارة الدفاع الروسية، وهي كذلك تساعد السلطات المحلية في المناطق المحررة في فرض الأمن ومواجهة مجموعات الاستطلاع والتخريب الأوكرانية، والتي تحاول إعاقة بدء عمل المؤسسات الروسية في تلك المناطق.
ومن الواضح أن قيادة وعناصر “فاغنر”، ممن فقدوا زملائهم في أرض المعركة، شعروا بأنه لم يعد لهم حاجة، ولم يتم توكيلهم بمهام قتالية واسعة كما تعودوا، وتمت مطالبتهم بعودتهم إلى مقار معسكراتهم الرئيسية، فكان رد الفعل العاطفي من جانب قائد المجموعة يفغيني بريغوجين والمحيطين، وأعتقد أنه من الممكن استيعاب الحالة النفسية لمن خاضوا قتالاً شرساً ومريراً على مدار سنة كاملة تقريباً، وعرضوا حياتهم للخطر، وفقدوا عدداً من أصدقائهم.
يتساءل البعض عن السبب في تسليح مجموعة خاصة على هذا النحو وبهذا الحجم في ظل الظروف الحالية، ولهؤلاء أقول إن ذلك هو رد فعل طبيعي على الحرب الهجينة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف “الناتو” ضد روسيا على جميع الصعد. ومن حق روسيا الدفاع عن نفسها بشتى الوسائل الممكنة، ومن خلال تجنيد كافة الإمكانيات المتاحة، لمواجهة المخططات والعمليات الإرهابية على الأراضي الروسية التي تمت استعادتها وضمها لروسيا، حيث يمكن لمجموعات أصغر في الحجم وأكثر مرونة في الحركة أن تكون مفيدة في ظل هذه الظروف.
ينبغي التأكيد هنا على أن ما حدث يوم أمس، لا ولا يمكن أن تكون له أبعاد سياسية تحت أي ظرف من الظروف، والحديث الواهم بشأن “خلخلة النظام الروسي” و”الانقلاب” ليس سوى أمنيات غربية بائسة بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد. فالمجتمع الروسي يدرك أبعاد الحرب الإعلامية والمعلوماتية الشرسة ضده، ويعي أبعاد الحرب الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسعي المضني من جانب الغرب للتمسك بأهداب النظام العالمي أحادي القطبية، الذي يفسح مكانه لنظام عالمي متعدد الأقطاب ستبزغ شمسه قريباً دون أدنى شك.
على الجانب الآخر، وبعيداً عن السياسة، وفي نفس اليوم الذي وقعت فيه هذه الأزمة العابرة وانتهت في روسيا، فاز الفارس الروسي الفلسطيني (الحاصل على الجنسية الرياضية الفلسطينية) بالمرتبة الأولى في سابق قفز الحواجز، في مباراة دولية لرياضة الفروسية ببلجيكا، ورفع العلم الفلسطيني في مضمار البطولة، على أنغام النشيد الوطني الفلسطيني.
أخبار كهذه تبشر برياح جديدة تذهب بالنظام العالمي القديم، وتبشر بتغير العالم وانحسار الهيمنة أحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية، وستتكلل مع الوقت بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة بدعم من دول منظمة البريكس، وجميع محبي العدالة والسلام حول العالم.