لماذا مصر ؟
بقلم/د. عبد الولي الشميري
يعتقد بعض الناس فى مصر أن النزعة القطرية فى بعض الشعوب العربية قد خدمت تلك الشعوب، أو أفادتها بشيء فى حياتها الإنسانية، أو شاركتها في بلوغ طموحها المنشود . ويخطئ أولئك فى ظنهم – سامحهم الله – أن مصر التي أبت آلاف السنين إلا أن تكون ملاذا يأوى إليه أصحاب المواهب والمبدعون من أمتها العربية والإسلامية لم تخسر باحتضانهم شيئا، بل آوتهم ونصرتهم وأفادت مما لديهم من معارف وعلوم وفنون وأفادتهم بما لم يكن لديهم من علوم وفنون فتفجرت مواهبهم وإبداعاتهم، حتى ملئوا بعلومهم الأسفار والأخبار والآثار، وأصبحوا شامة فى تاريخ مصر وأعلامًا ينتمون إليها بفخر واعتزاز، فما خسرت مصر ولا أهلها شيئًا بهم، بل تدافع أهل مصر – ونعما هم – لاحتضان رجل قرشي وفد إليهم قادمًا . ا من العراق، شاب يدعى أنه من أهل العلم وطلابه؛ فتشاغب أصحاب المهنة يلمزنونه ويتهكمون ويتندرون عليه حتى عرفه العلماء وجالسه الفضلاء وعرفوا عنه حقيقة موهبته وتضلعه في علوم اللغة العربية، وتبحره فى القرآن وعلومه وحفظه الواسع لأحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – فأحبوه وأكرموه ودافعوا عنه بل وتزوج مشاهير المحبين لأنثاه المصرية وأطلق حكمته المشهورة الخالدة: من لم يتزوج من مصر فليس بمحصن. ولم يقف الأمر بهم عند هذا فحسب بل تتلمذوا على يده واتبعوا أقواله وعبدوا الله في ضوء كثير من اجتهاداته الفقهية، ولما رأى فى مصر وعلم وعايش التصور الحياتي وطبيعة منهم، فكان من المجتمع رجع عن كل اجتهاداته القديمة التى كان يراها في حياته في بغداد إلا قليلا، وحتى الموت كان في مصر الكنانة مع الأحباب، وثوى في مقبرته المشهورة قرير العين يأتم به معظم أهل الشعب المصرى ويترحم عليه هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أكان على مصر وعلى المصريين الكرام ضرر من احتضانه والإفادة منه من أجل هذا النبل والشيم؟!
كانت مصر مهوى للقلوب وملتقى للمواهب والعلوم، أما من كان من قبل الإمام الشافعي وبعده من أجيال الصحابة والمحدثين والصلحاء وآل بيت النبوة والفاتحين فحدث تابعت وأنا أدون موسوعة أعلام العرب . في ذهول – الأعداد الهائلة من أعلام الأرض ومشاهير التنوير الذين هجروا أوطانهم وهاجروا إلى مصر واستوطنوها وأناروا من أرضها أرجاء الدنيا على سبيل المثال لا الحصر فيلسوف علم الاجتماع الكبير الإمام ابن خلدون الأندلسى المغربى الذى هجر المغرب وجنة الأندلس، واستبدل بالأهل والوطن القلوب المصرية النقية وأبدع فيها تأريخه، ونشر في مدارسها وأزهرها الشريف مقدمته الشهيرة، ولم يستسلم للموت إلا في القاهرة المنيرة، ودفن في مقابر الصوفية من حى البساتين المعروفة أكان في استضافة واستيطان هذا العلم الشامخ مذمة أو عار على أهل مصر أم شرف يفاخرون به أهل الأرض قاطبة؟! وهل لأى قطر أو لأهله ،فخر بأنهم حرموا من انفتاحهم على الأقطار الأخرى؟!
ولو سألنا في الإسكندرية اللؤلوة الثمينة عن أهم معالمها ومشاهير فضلاتها الذين سكنوا وما يزالون يسكنون قلبها لأجابنا الناس بأن ذلك كله لسيدى المرسى أبي العباس أو لسيدى جابر أو سيدى بشر، وأى من هؤلاء غير وافد بصلاحه ونوره وهداه من قطر آخر غير مصر ورضى بمصر عن أهله وداره بديلا ؟ !
أما المرتضى الزبيدى صاحب (تاج العروس) وأربعين مؤلفًا آخر من فيض النور الرباني، والذي أعده مصريا لأنه استقر فى مصر واستوطن وعلم فيه ! وتعلم وألف ومات ودفن فى ترابها ولم يكن سوى رجل وافد من الهند أنا وأما ومولدا ونشأة، وطالب فى مدينة زبيد تعلم وعلم في بلاد اليمن وحمل لقبه الشهير الذي عرف به الزبيدي) وحج، ومع ذلك لم يعجبه أى من تلك البلدان، وآثر وأحب مصر وأهلها حياةً ومونا ولا يسع المقام للاستطراد التاريخي عما لمصر وأهلها من خصوصية وحب لدى كل حامل موهبة وعلم ؛ ولذلك أطلق عليها اسم (وطن العلم) .
وحتى في عصرنا الحديث بعد أن تجزأت الشعوب وتقطرت الأقطار وفد رجل من بلاد الأفغان أعجمي فتحملته مصر ورحبت به رغم أنه كان مطلوباً رأنا وجسّدا من بريطانيا العظمى، ومن السلطات المحلية الهندية، فرحب به أهل مصر ومكنوه من صدارة مجالس الأزهر الشريف وألقت إليه مصر بغرر رجالها ودرر شبابها ليعلمهم سبيل الثورة ويبصرهم بأسباب النهوض، وفعلاً قاد حركة التنوير في العصر الحديث وربى جيلاً مصريا مستنيرا في مواجهة الاستعمار والاستبداد والجهل والتخلف حتى تمخض التواصل التنويرى من عصره إلى قيام الثورة الجمهورية سنة 1952 التي قادت حركة التحرر في مصر في كثير من أقطار الوطن العربي، إنه السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله – الذي أجمع المصريون على دوره وفضله كما أجمعوا على إيوائه وحمايته. إنها مصر الوطن العملاق أرضًا وإنسانا كانت وما تزال كعبة الإبداع ومأوى الموهوبين في أهلها :
ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم
يصاب بنسيان الأحبة والوطن.