ترك ما لا يُدرك وإدراك ما لا يُترك.
بقلم : عثمان الأهدل ..
قال الله تعالى :{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}. [البقر الآية 3].
إن الإيمان بالغيب هو أصل العقيدة، بأن يعتقد الإنسان اعتقاداً جازماً أن كل ما يأتي من الله هو عين الصواب، واتخاذ ذلك منطلقاً للبحث هو رشدٌ وهدايةٌ، تُمّكن أمة لا إله إلا الله من الاستخلاف في الأرض، وقد مدحنا الله بأننا أمة آخذةٌ بالغيب وأننا لا نُخضع ما يأتينا منه عن أمور التوحيد لمقياس العقل أو الفلسفة الفكرية القاصرة والتي لا تستطيع أن تدرك بواطن الحقيقة فيه. حيث قال سبحانه :{أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقر الآية 5].
يقول بن خلدون :”إن العقل ميزان صحيح، لكن لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد، فإن ذلك طمع محال”. أو كما يقول ايمانويل كانت :”أستطيع أن أصف لك كيف يبدو لي العالم، لكني لا أستطيع أن أصفه كما هو في الواقع”. فقد أدرك هؤلاء المفكرين أن الإدراك البشري لبواطن الأمور هو ضربٌ من الخيال وهو محدود بمدى إدراك ذلك الإنسان. وما مشكلة المرتابون بأمر دينهم، الذين يطلقون على أنفسهم التنويرين، أو العقلانيين كما يحلوا لهم، يرون الدين من خلال منظار عقلي بحت، فيقعون في المحذور الذي قد يأخذ بهم إلى نبذ كل فكرة لا تتوافق مع حدود فكرهم القاصر، الذي لا يستطيع سبر أغوارها على واقعها الحقيقي.
بيد أن من حق البشرية أن تعي ما خفي عنها، وهنا كفل الله لهم البحث والتمحيص كي يكتشفوا ما قد يلبي شغفهم في المعرفة، إذ يقول جل في علاه في ذلك :{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } [الرحمن، 33].
اتفق العلماء أن السلطان هو البينة أو العلم، ولم يُغفل اللهُ دور العقل بتاتا، بل حثنا بأن نتدبر آياته، و نعقلها ونعتمد عليها في البحث والتجربة، بعين باحثٍ عن الحقيقة لا بعين ناقدٍ و متصيدٍ للأخطاء. ولتفادي هذا اللبس أناط اللهُ مهمة الإيمان بالعقيدة إلى القلب لا العقل لترسيخ مبدأ التفكير على بينة. فوضع كل شيء في ميزان العقل هو ضربٌ من الجنون الذي يُدخل في نفق مظلم لا قرار له.
فقد جاء إعرابي إلى سيد الخلق صلوات الله عليه، فقال: “يَا رَسُول اللَّهِ دُلَّني عَلَى عمَل إِذا عمِلْتُهُ، دخَلْتُ الجنَّةَ. قَالَ: تَعْبُدُ اللَّه وَلاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكاَة المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ: وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا أَزيدُ عَلى هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلى هَذَا”.. مُتفقٌ عَلَيْهِ.
فلِمَ لا نكون نحن ذلك الأعرابي “ترك ما لا يُدرك، وإدراك ما لا يُترك”.
ولا سيما أن المرجفون وأعداء الدين لا يألون جهداً إلا ويتحايلون على الجهلة من أمة الإسلام، الذين يعبدون الله على حرفٍ، فيضعون كل ما جاء في القرآن على ميزان العقل المحدود، ليصطادوا أو لعلهم يجدوا ما يلبي إجرامهم بليّ أعناق الآيات للتضليل والتحريف كذباً ودجلاً. والفطين من يغلق أبواب هذه الفتن، حتى لا يترك للشك مجالاً يتغلغل في قلبه.
وفي الجانب الأخر، أن الغرب يستنبطون نصائح سيد الانام ﷺ ويتدارسون أحاديثه عندما تحل بهم الأزمات، وها هي جائحة كورونا فضحت عوار أنظمتهم الخاوية، حتى أن أحد المسؤولين في أسبانيا وأعتقد أنه كان وزيراً للصحة إن لم تخني الذاكرة، نصح الناس باستخدام الماء والتطهر كما يتطهر المسلمون.
ليس ذلك فحسب، بل أن إحدى الجرائد الأمريكية المشهورة ذكرت حديث سيد الانام ﷺ عن وجوب عزل المدينة التي تصاب بالطاعون، ومنع الناس الدخول إليها أو الخروج منها. كما أن أنظمتهم في معظمها بدأت تتبني الشرائع الإسلامية بعد إعادة تغليفها بعناوين غربية. ولم يتوقف الحال إلى هذا الحد، بل أنه يكفينا تعجباً بأن جعلوا سيد المرسلين ﷺ في مقدمة مئة أعظم شخصية في العالم. يكفرون بدينه ويُعجبون بشخصيته، تناقض عجيب. وهذا يعطينا حافظاً أكبر للتمسك بعقيدتنا والعض عليها بالنواجذ، والابتعاد عن مواطن الشك.
ويعتقد البعض أن هناك تناقضاً في آيات القرآن الكريم جهلا وضعفا في فهم صياغ اللغة التي تحدى بها أقحاحها في زمن كفار قريش، يتخبطون كما يتخبط الأعمى فاقد البصيرة، أو كالذي يمشي في ظلمات الليل الدامس لا يستطيع أن يرى بها حتى يديه. وقد لعبت مواقع الكترونية شتّى في هذا الوتر الحساس، منشئها إما إسرائيل أو إيران وجها الصهيونية العالمية إن لم أبالغ. ولم يجتهدوا لفعل ذلك إلا لعلمهم أنَّ متى ما تمسك أهل السنة بدينهم سادوا الأمم، كما جاء ذلك في قوله سبحانه :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.[محمد 7]
ومن العجائب الفارقة، أن الغرب بدأوا يتطببون بالوصفات التشريعية الإسلامية لأمراض الإدمان، فقد اتخذت بعض دور التطبيب في روسيا الجَّلد كعلاج للإدمان في تعاطي الحكول، ولا يعلمون أنه سبباً أيضا لعلاج إدمان الزنا، ولله في خلقه شؤون.
ومن المقولات المتداولة بين الناس كثيراً :”الله عرفناه بالعقل”، ربما ذلك صحيحاً إن توقف الأمر في التفكر بآيات الله، ولكنه مشروطاً بشرح الصدور للإيمان أولاً، وهذا تصديقاً لقوله تعالى :{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانعام، 125]
خلاصة القول أن من يريد الهداية يهديه اللهُ ويثبت إيمانه، ومن يبحث عن الأعذار ويجلس مقاعد التحدي للعلماء فإنه حتما سيضل طريقه، ولا سيما أن سيد الانام وصف علماء الدين بورثة الأنبياء لحملهم رسالة الله ونبيه الكريم، وأثبت التاريخ لنا أن كل من تعهد العلماء بالإساءة كانت نهايته وخيمة ومذلة. فلنتقي الله ونركز على وحدة الكلمة، وأن نبتعد عن النقاش الذي لا يسمن ولا يغني.
واللهُ غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.