العدل بين المساواة والانصاف.
بقلم : عثمان الأهدل …
غالبًا ما يستخدم الناس مصطلحا المساواة والإنصاف في حياتهم اليومية، وقلة من يدرك الفرق بينهما أو لنقل بالأصح تكاملهما. ولا شك أن هذين المصطلحين يمثلان وجهين للمصطلح الشائع “العدالة” في معناه، والذي ارتبط عند الأغلبية بحرية الرأي دون قيود قد يصل إلى حد التطاول والفوضى كما هو عليه الحال في الغرب، غير أن المفكر كولن دلسن شذّ عن ذلك، وأدرك بأن ؛”الحرية مدمرة إن لم تصحبها المعرفة والشعور بالمسؤولية”، وهذا الوصف أقرب إلى فهم الاختلاف بين المكونات في الحياة، ولا سيما الاختلاف بين الرجل والمرأة بيولوجيًا.
وقد يكون المساواة في حقيقة الأمر هو تقاسم المسؤولية بين الجنسين في الناحية الاعتقادية واللفظية ويختلف في الناحية الوظيفية، وهذه حقيقة لا مفر منها، فالمرأة تُستثنى في طبيعة الحال من بعض الأعمال بخلاف الرجل، ولكنها تتساوى معه في الاعتقاد واللفظ. واختلاف المرأة بيولوجيًا عن الرجل يُعد تكاملًا وليس انتقاصا، فلكل واحد منهما وظائف ومسؤوليات يكملان النسيج الاجتماعي للأمة، ولو تشابهت مسؤولياتهما الوظيفية لَمَا كان وجود لحياة بشرية متحضرة. وهذا يعطينا دلالة دون شك بأن نعرات المساواة بين الجنسين يُعد ضربٌ من الجنون، غايته هدم الكيان الأسري المكون للنسيج الاجتماعي.
ولو تساوت المسؤوليات الوظيفية لكلاهما لأُصيب النسيج الاجتماعي بعلل وأمراض لا يُحمد عُقباها، وهذا ما نجم عنه في الغرب في عصر الحداثة التي سرقتها موجة الليبرالية، المُدنَّسة بنهج التعري على المستويين الفردي والجمعي بذريعة المساواة، حتى أصبحت المرأة كالسلعة تُستعرض مفاتنها دون احترامًا لكينونتها، فاختلطت الأنساب، وهُتكت الأعراض وذابت الغيرة واضمحل الحياء على مدارج الاسفاف. أما الانصاف هو إعطاء كل ذي حقٍ حقه قياسًا إلى الاختلاف البيولوجي، فسنة الله لا شك لا تخرُج عن إطار العدالة في شتى المسائل الحياتية، بل هي منبع العدالة بذاتها.
ومن هنا أعطى الإسلام الفسحة للمرأة وأعفاها عن كثيرٍ من المسؤوليات الوظيفية تجاه المجتمع وأُسرتها، عدا ثلاثة وظائف لا رابع لهما، وهي حفظ غَيبة شريك حياتها وتتويج علاقتهما بذرية، وغرس المبادىء والقيم في هذه الذرية، غير أن هبة الذرية خاصة بمشيئة الله. ولهذا حثنا ديننا الحنيف على الاهتمام بتربية البنات وجعلهن سببًا لدخول الجنة، كما جاء في قول سيد الأنام صلى الله عليه وسلم ؛”من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَته (أي سَعَته)؛ كُنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة”.
ولله در شاعر الشعب ابراهيم حافظ، إذّ قال في أبياته الباتعة :”الأم مدرسة إن أعددتها، أعددت شعبًا طيب الأعراقِ”، كلمات تترجم مسؤولية المجتمع في تربية أمهات المستقبل وهن في ريعان طفولتهن على حسن الخلق والمبادىء والقيم، لبناء أمة ذات كيان متماسك لا ثغرة فيه.
و إذا أردنا أن نّعرف الإنصاف والمساواة أكثر بدقةٍ، فلنشخص ذلك على بطولة رفع الأثقال كمثال بسيط، يتم فيها توزيع اللاعبين إلى فئات حسب الأوزان، ويسمى ذلك انصافًا، ويتم توزيع قيمة الجوائز بالتساوي بين هذه الفئات جميعها دون استثناء عدا في الترتيب ضمن الفئة الواحدة، ويسمى ذلك مساواة، وهناك العديد من الأمثلة في حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإذا طُبق مبدأ الانصاف ومبدأ المساواة كما ينبغي دون محاباه كان ذلك عدلًا، ولهذا راجت بين المفكرين والساسة جملة “العدل أساس الحكم”، وهذا لا خلاف عليه، ولنا في التاريخ عِبر لا تحصى، انقرضت امبراطوريات وسلطنات مسلمة وغير مسلمة، عندما انتشر فيها النفاق الاجتماعي والتطبيل السياسي وغاب عنها الانصاف وشوهت المساواة بالتحايل فكانت نهايتها.
والعدل يعُد من الايمان والاخلاق، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال ؛”انما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. وقد لا اُبالغ إن شخصت ذلك على الدول التي أصيبت بداء الربيع العربي. فمن كان يصدق أن معمر القذافي بكل جبروته وطغيانه يتم قتله بشكل مهين وبأيدي توافه شعبه، وكم هي من القصص التي فاقت ذلك، وهي سنة الله في الأولين والآخرين عندما ضعفت قناطر إيمانهم بالله سبحانه، واللهث خلف التّحاكم بالقوانين الوضعية القاصرة عن حقيقة طبيعة البشرية. والجدير بالذكر أن بعضًا ممن يُحسبون على الفكر إدعاءً، يدلسون على الأمة بقولهم “أن بقاء المرأة في بيتها هو تعطيل لنصف المجتمع”، والغاية من ذلك كلمة حق يُراد بها باطل، وهي غيث من فيض لمطالب أكثر جرئة على المبادىء والقيم.
ولا يدركون هؤلاء الجهلة أن مهمة تربية الأجيال هي أهم غاية في بناء المجتمع، ولا سيما أن الأمم تُبني بالمبادىء والقيم، وأمة لا مبادىء لها ولا قيم، لا حضارة لها وتبقى تابعة وتافهة وإن تطورت ظاهريًا، ولهذا تجد الحرب الشرسة الدؤوبة من قبل أعداء الإسلام لانتزاع شرف ذلك عن عاتق المرأة. ويؤكدُ بعض المفكرين والمصلحين أن قمة الهرم في الحفاظ على الأمة هو حفظ تلك المكنونة من وقوعها في مستنقع أعداء الله الآسن، الذي يرمي بها إلى غياهب المجون، وافساد مبادئها وقيمها. وللأسف فهمنا للدين وغايته خطئًا بمفاهيم عقيمة لا تمت للإسلام بصلة يعطي لهؤلاء الفسحة للصيد في الماء العكر بابراز تلك المفاهيم العقيمة لبذر الريبة في ضعاف النفوس تشويهًا للإسلام، لانتزاع ما تبقى في قلوبهم من فتيل الإيمان. والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.