
حين يطرق الفقد أبوابنا، لا يأتي بصخب، بل يتسلّل كنسمة باردة تحمل في طيّاتها ارتجافًا لا يُنسى. نكتشف فجأة أن العمر ليس خطًّا مستقيمًا، وأن القلوب تُعاد صياغتها كلّما غادرها شخص أحبّته، أو تلاشى حلم آمنت به، أو انقضى زمن كانت لها فيه ملامح أخرى. للفقد قدرة غريبة على إعادة ترتيب أرواحنا، كأنه يطفئ ضوءًا ويشعل آخر، يسرق منا شيئًا ويمنحنا شيئًا آخر لا ننتبه له إلا بعد وقت طويل.
نقف أمام الغياب مرتبكين، نصفنا مشدود إلى الأمس، ونصفنا الآخر يحاول أن يتعلم كيف يمشي من جديد. هناك، في تلك المساحة الرمادية، يطلّ الحنين كرفيق دائم؛ يذكّرنا بما كان، يربّت على الذاكرة، ويعيد للمشاهد القديمة حياة لا تُرى. لكن بجوار هذا الحنين يقف التعايش، بوجهه الهادئ، يدعونا لأن نكمل الطريق مهما كان الثقل الذي نحمله.
الفقد ليس جرحًا يلتئم بمرور الوقت فقط، بل تجربة تعيد تشكيل حواسنا، وتمنحنا قدرة أكبر على الفهم، وعلى الإصغاء لما بداخلنا. ولهذا، فإن الحديث عن الحنين والتعايش ليس حديثًا عن الضعف أو الاستسلام، بل عن رحلة إنسانية توازن بين الألم والقوة، بين البقاء في الذكرى والمضيّ في الحياة.
الفقد ليس حدثًا عابرًا في الذاكرة، بل حالة وجودية تترك أثرها في الروح قبل الخطوات. حين نفقد شخصًا، أو زمنًا، أو حتى جزءًا من ذواتنا، ندرك أن العالم لا يعود كما كان، وأننا نحن أيضًا لا نعود كما كنّا. يتسرّب الحنين إلينا بلا استئذان، يوقظ التفاصيل الصغيرة، ويعيد فتح الأبواب التي اعتقدنا أننا أغلقناها إلى الأبد.
لكن الحنين، رغم دفئه، سيفٌ ذو حدّين؛ يمنحنا القدرة على التذكّر، لكنه قد يعطل القدرة على المضيّ قدمًا إن تحوّل إلى إقامة دائمة في الماضي. من هنا تبدأ رحلة التعايش: أن نتعلّم كيف نحمل ذكرياتنا دون أن تُثقل خطانا، وكيف نحترم وجعنا دون أن نسمح له بأن يسرق حاضرنا.
التعايش مع الفقد لا يعني النسيان؛ فالنسيان ليس قرارًا ولا هو واجبًا. التعايش يعني أن نصنع سلامًا جديدًا مع الغياب، أن نمنح أنفسنا الإذن بالبكاء حين يلزم، وبالابتسام حين نستطيع، وأن نفهم أن الجرح قد يلتئم لكنه يترك أثرًا هو جزء من قصتنا.
وبين الحنين والتعايش مساحة دقيقة تتشكل فيها حكمتنا. هناك نتعلّم أن الفقد لا يقاس بما ذهب، بل بما ترك فينا من قوة. نتعلّم أن الأشخاص الذين غادروا يواصلون العيش في ذاكرتنا بطرائق لا تُرى، وأن الأماكن التي تغيّرت تحمل جزءًا من ماضٍ يظلّ يهمس فينا.
ليس الفقد نهاية الطريق، بل اختبارٌ لقدرتنا على إعادة بناء أنفسنا من شظايا اللحظات التي انكسرت في أعماقنا. نحن لا نُهزم بالغياب، بل نكتشف من خلاله حدود صبرنا وعمق إنسانيتنا. فالحنين، مهما اشتدّ، لن يمنع الشمس من الشروق، والتعايش، مهما صعُب، يظل الخطوة الأولى نحو حياة لا تزال تنتظر أن نمنحها فرصة.
وفي لحظة صدق مع الذات، ندرك أن ما نفقده لا يغادرنا تمامًا؛ بل يتحوّل إلى نور خافت يرافق خطواتنا، يذكّرنا بأن الألم يمكن أن يكون معلمًا، وأن الذاكرة يمكن أن تكون جسرًا، وأن القلب قادر دائمًا على النهوض
حين يتوه بين الأمس والغد.
هكذا، لا يصبح الفقد كسرة نهائية، بل صفحة جديدة نكتب عليها بوعي أشد، وحنين أهدأ، وقوة لم نكن نعلم أنها فينا.



