مقالات

الولاء للعراق (( قبل ان يضيع الوطن ))

أ. د. محمد طاقة

لم تكن البُنى الطائفية والعشائرية والاثنية والمناطقية ، ظاهرة جديدة في المجتمع العراقي . فهي امتدادات تاريخية متجذرة في البنية الاجتماعية للبلاد . شأنها شأن معظم المجتمعات المتنوعة . غير ان الفارق الجوهري بين ما كان قائماً قبل الاحتلال عام (2003) وما ظهر بعده ، هو ان النظام الوطني استطاع بسلطته المركزية القوية ومشروعه التنموي الوطني ان يضبط هذه الانقسامات ويمنعها من التحول إلى معاول هدم ، وان يحتضن جميع المكونات ضمن مشروع دولة واحدة وهوية وطنية عليا . فقد ضمت الحكومات العراقية في العقود السابقة خليطاً من مختلف الطوائف والديانات والاتجاهات ،
وأقرت حقوق الأكراد في الحكم الذاتي ، كما رُوعيت حقوق الأقليات كافة . كان الانتماء إلى العراق هو المعيار ، والمواطنة هي الرابط الاساس .
إلا ان دخول قوات الاحتلال إلى بغداد يوم (9/4/2003) قلب المعادلة رأساً على عقب ، فانهارت الدولة المركزية ، وتحول المجتمع إلى ساحة مفتوحة لكل الانقسامات الدفينة التي سرعان ما انفجرت في غياب الدولة ومشروعها الوطني .فمع تفكيك السلطة الوطنية وإحلال سلطة الاحتلال وحكومات مُعينة ، برزت على السطح ظواهر لم تكن متصورة بهذا الحجم ولا بهذه الخطورة ، لعل اخطرها هو (( ضياع الولاء الوطني )) وتحوله إلى ولاءات طائفية وقومية ومرجعية وعشائرية ومناطقية .
لم يكن يتُوقع أن يُقدم جزء من العراقيين انتماء هم الطائفي على انتمائهم للعراق ، وان تصبح الطائفة معياراً في السياسة والوظائف والاختيارات ، إلى درجة ان الولاء اصبح يتحدد وفق تعليمات مرجعيات دينية معظمها غير عربية وغير عراقية ، وبعضها لايعرف تفاصيل واقع العراق و لايضع مصلحته في الحسبان .

كما اصبح الولاء للقومية على حساب الهوية الوطنية حيث صرّحت بعض القيادات الكردية علناً بأنهم (( أكراد وليسوا عراقيين)) في موقف يعكس عمق الاختلال الهوياتي الذي تفاقم بعد الاحتلال .

كما اصبح الولاء للعشيرة وللشيخ على حساب الولاء للعراق ، حيث جزء آخر من المجتمع بات ولاؤه للعشيرة قبل اي شيء ، حتى لو كان شيخ العشيرة غير متعلم و غير قادر على فهم التحديات الكبرى . وهكذا اصبح قرار الفرد خارج اطار الدولة والمؤسسات ، بل داخل اطار اجتماعي ضيق يقوده أشخاص لا يمتلكون رؤية ولا معرفة .
واصبح الولاء للمناطقية والعصبية المحلية رابطة بديلة عن الولاء للبلد ، بحيث عمقت الانقسامات واضعفت اللحمة الوطنية .
هذه الولاءات جميعها شكلت حواجز صلبة امام وحدة الشعب وقواه الوطنية ، وأسهمت في تفكيك المجتمع واضعافه إلى حد غير مسبوق .
لم تكن هذه الظواهر عفوية أو وليدة الصدفة ، بل جاءت ضمن استراتيجية واضحة اعتمدها الاحتلال . كون تعميق الانقسامات الداخلية تسهل قيادة مجتمع مجزأ ومفكك .
قامت الحكومات التي نُصّبت بعد عام (2003)بترسيخ المحاصصة الطائفية والاثنية والعشائرية كمنهج للحكم ، حتى اصبحت بنية النظام السياسي قائمة على الانقسام لا على الوحدة (( كما جاء بالدستور )) ، فكل طائفة وحزب ومليشيا باتت تمتلك حصتها من الدولة ، وكل جهة لها منطقتها ومؤسساتها وسلاحها واقتصادها .
غياب الدولة وانهيار القانون سمحا بانتشار الفساد المالي والإداري على نطاق واسع وتدهورت القيم الاجتماعية فتعمقت الانانية وضعف الشعور بالمسؤولية الجماعية ، وتحولت الدولة إلى غنيمة والسلطة إلى وسيلة للثراء الفاحش .ومن نتائج ذلك انهيار الخدمات وتراجع التعليم والصحة ، تضخم الجهاز الإداري، وتفشي ثقافة الفساد حتى اصبحت جزءاً من الحياة اليومية .
إن انتشار الفقر والبطالة في اغلب محافظات العراق جعل شريحة واسعة من المجتمع رهينة للحاجة المادية ، ومع سيطرة المليشيات المتحالفة مع ايران وحيتان السلطة على راس المال والاقتصاد ، بات من السهل شراء الولاءات .
لقد اصبح المال هو الرابط الأقوى بين الفقراء وهذه القوى ، حتى تحوّل الولاء الوطني إلى ((سلعة )) تباع وتشترى . وهذه من اخطر مراحل الانحطاط الاجتماعي والسياسي ، لان السيطرة على الثروة والسلطة معاً تتمكن اي قوة من اخضاع الأكثرية وفرض ارادتها على الدولة والمجتمع .
ما يفاقم الأزمة ، كون نمط التفكير السائد في المجتمع العراقي بل في المجتمعات العربية عامة ، هو نمط يقوم على الطائفية والعشائرية والجهوية، وهو نمط لا يواكب تطور العالم ولا يناسب تحديات العصر . ان مجتمعاتنا لا تزال اسيرة التفكير الانفعالي لا العقلاني ، واسير
الرموز التقليدية لا العلم والمعرفة ، واسير الماضي لا المستقبل . والمؤلم ان البعض يتبع اشخاصاً غير مؤهلين ، اميين ، ومتخلفين ، فقط لانهم شيوخ عشائر أو رموز دينية ، بغض النظر عن وطنيتهم أو مستوى وعيهم أو ولائهم لدول اخرى ، وهذا امر غير منطقي ولا يتسق مع أي رؤية حضارية .

ايها العراقيون
لا مستقبل للعراق من دون ولاء وطني خالص
إن استمرار ولاءاتكم لغير العراق هو (( كارثة وجودية )) ، لا تهدد حاضرنا فحسب ، بل تدمر مستقبل اجيال كاملة .
ان العراق يُنهب اليوم امام أعين الجميع وثرواته تستنزف ، وسيادته تنتهك ، وحدوده تخترق ، وكل ذلك لان ولاء الكثيرين ليس للوطن بل لغيره . إن اخطر ما يمكن ان تتعرض له دولة هو ضياع الولاء الوطني ، لانه الاساس الذي تبنى عليه السيادة والتنمية والاستقرار .
ان ما يجري في العراق مخيف حقاً ، لكنه ليس قدراً حتمياً . والحل يبدأ من (( اعادة صياغة منظومة التفكير والتخلي عن الطائفية والعشائرية والجهوية، واعتماد عقل حضاري انساني علمي ، يعيد للعراق مكانته ودوره ))
ان الولاء للعراق ليس شعاراً ، بل ضرورة وجودية ، فإذا لم نغير ولاءاتنا وقيمنا فسوف يمحى العراق من الخريطة السياسية ، وسنعيش اذلاء بلا قوة ولا سيادة وستنهب ثرواتنا كما تنهب اليوم .
فلنصْح ُ قبل فوات الأوان ، ولنجعل ولاءنا للعراق فقط ، عراق واحد موحد ، فوق كل طائفة وقومية وعشيرة ومنطقة .

عمان
3/12/2025

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى