
الشخص الوحيد الذي يستحق الاحترام حيًّا كان أو ميتًا هو الأب،
فهو الإنسان الوحيد الذي يتمنى أن تكون أفضل منه،
هو من يراك امتدادًا لروحه، ومرآةً لأحلامه التي لم تكتمل،
هو المدرسة الأولى التي لا تغلق أبوابها،
ومن تحت ظلاله نتعلّم معنى الرجولة والكرامة والعطاء.
اليوم، أود أن أحدثكم عن جيلٍ يسمّيه هذا الجيل بـ “جيل الطيبين”،
ذلك الجيل الذي عاش بساطة الحياة، وامتلأ قلبه بالقيم والوفاء،
جيلٌ كان يرى في الكلمة نورًا، وفي الكتاب نافذةً إلى العالم.
في تلك الأيام، كانت للكتب مكانة لا ينافسها شيء،
وكانت مكتبات المدارس تضجُّ بالزحام،
وأسماءنا تتكرر في دفاتر الاستعارة كأنها شهادات عشقٍ للقراءة.
أتذكر جيدًا أول لقاء لي مع “المغامرون الخمسة”،
كنت في الصف الخامس الابتدائي،
وكان “تختخ” و“محب” و“لوزة” أبطالي المفضلين.
من خلالهم تعلمت أن الذكاء طريق النجاة،
وأن الصداقة لا تُقدّر بثمن.
تلك القصص كانت تصدر عن مؤسسة الهلال التابعة لجريدة الأهرام المصرية،
وفي الجهة الأخرى كان هناك بطل آخر يطلّ علينا بشخصيته الغامضة — الرجل المستحيل،
من تأليف الراحل نبيل فاروق، الذي سحرنا بخياله البوليسي الرشيق.
كانت المنافسة بين الصحف والمجلات اللبنانية والمصرية على أشدها؛
اللبنانية تبهرك بأوراقها الملوّنة وأناقتها،
لكن الصحافة المصرية كانت مدرسة في العمق والتحقيق.
ومن الجميل أن نتذكر أن أول صحيفة عربية هي الأهرام،
التي أسسها الأخوان تقلا من أصل لبناني، فجمعت بين الفكر والعروبة في أبهى صورها.
ثم ظهرت أيقونة الطفولة العربية الخالدة — مجلة ماجد،
التي صدرت من دولة الإمارات العربية المتحدة،
لتكون الرفيقة الأقرب لخيالنا وطفولتنا.
أتذكر والدتي — رحمها الله — وهي تعود من السوق مبتسمة،
تحمل لي مجلة “ماجد” وتقول:
“اقرأها، ففيها عالم أجمل من الواقع.”
ولا زلت أذكر الإعلان الشهير الذي كنا نردده بحماس الطفولة:
> “يله يا موزة وراشد… نجري نشتري ماجد!”
كنت أحتفظ بما يقارب ثلاثمائة عدد من أعدادها القديمة،
فجيلنا كان بحق جيل القراءة،
جيلٌ يرى في الحرف متعة، وفي الورق رائحة لا تُنسى.
ولم تكن القراءة وحدها ديدننا،
بل كانت المجلات الثقافية والفنية والسياسية ملاذنا أيضًا:
“العربي”، “الوسيط”، “الرجل”، “الموعد”، “زهرة الخليج”، وغيرها الكثير.
كانت تلك الصفحات تصنع وعينا، وتشكل ذائقتنا،
وتمنحنا إحساسًا أن العالم بين أيدينا… ولو من خلال ورقٍ مطبوع.
وهنا تحضرني حادثة لا تُنسى مع والدي – رحمه الله –
كانت درسًا في الحياة لا تمحوه السنين.
ذات يوم، رغبت بشراء كتاب للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل،
لكن ثمنه كان مرتفعًا، ولم يكن ما جمعته من مصروفي يكفي لشرائه.
فاتجهت إلى والدي وقلت له بثقة:
– يا أبي، أريد مبلغًا لأشتري كتابًا.
هزّ رأسه وقال: “حسنًا، غدًا سأعطيك المبلغ.”
وفي اليوم التالي، رأيته يحمل صندوقًا مليئًا بالليمون الطازج!
استغربت وقلت له متعجبًا:
– يا أبي، أنا طلبت مالًا لأشتري كتبًا، لا ليمونًا!
ضحك وقال لي بحنانٍ ممزوج بالحكمة:
– هذا هو المبلغ الذي طلبته… خذه وبِعه في السوق،
واشترِ بثمنه ما تشاء.
أتظن يا بني أن المال يأتي مهرولًا؟
اعمل، وتعلّم كيف تكسبه بيدك،
فالجهد هو الطريق الوحيد للقيمة.
تلك اللحظة لم تكن درسًا في التجارة،
بل كانت درسًا في الكرامة والاجتهاد والحياة.
ومنذ ذلك اليوم، أدركت أن الآباء يتعبون كثيرًا
ليزرعوا فينا القيم قبل أن يمنحونا المال.
رحمك الله يا أبي،
علّمتني أن العرق الذي يسقط من جبين الرجل
هو أثمن من كنوز الدنيا كلها.
أما عن تواصل جيلنا فكان مختلفًا تمامًا،
لم تكن هناك وسائل فورية ولا رسائل إلكترونية،
بل كانت الرسائل الورقية تسافر عبر ساعي البريد،
تقطع البحار لتصل إلى يد من نحب،
وكان الانتظار جزءًا من الحب ذاته.
كما قال عبادي الجوهر ذات لحنٍ حزين:
> “ولا رسالة يا هاجر بيد ساعي البريد…”
أما قصص الحب في ذلك الزمن، فكانت تولد من النوافذ،
حين تكون جارك هو القدر،
وحين تكون النظرة أصدق من ألف رسالة.
كانت علاقات الجيران تقوم على الاحترام،
فبنات الجار كأنهن أخوات،
وإذا تطاول غريب، نهض الجميع دفاعًا عن كرامتهن.
ومع ذلك، لم تخلُ الحياة من قصص الحب البريئة
التي بدأت بورقة صغيرة أو ابتسامة عابرة،
وتوّجت أحيانًا بزواجٍ جميلٍ لا يعرف الخداع ولا المظاهر.
جيلنا كان صادقًا، بسيطًا،
يعرف قيمة الوقت، ويفهم معنى الحياء،
جيلٌ علّمنا أن المحبة لا تحتاج إلى اتصال،
بل إلى قلبٍ يذكر ويخلص مهما طال الغياب.
ولنا في تلك الذكريات رمق حياة،
وفي ملامح آبائنا قدوة لا تندثر،
وفي دفاتر الزمن القديم رائحة لا تزول.
> أحب مايا وعينيها وما ملكت
من الثمار، فسبحان الذي خلقا
كأنها غصن بانٍ مزهرٌ عبِقٌ
ولو رآها جمادٌ ساكنٌ نطقا.