شعر و قصص

طريق الخبز

بقلم: ناصر بن محمد الحارثي كاتب من سلطنة عُمان-مسقط

 

قصة حقيقية يرويها الألم بنفسه، عن رجل أثقلت كاهله الدنيا وأغلقت أبوابها في وجهه، اسمه عبدالله. منذ أن كان في ريعان شبابه، كان الفقر ثوباً قديماً يلتصق بجلده. كان والده يعمل حارساً لأحد المدارس، ووالدته تبيع البقوليات أمام المنزل. كانت حالهم يرثى لها، لكن عبدالله عاش سعيداً لأن والده كان يصارع لأجل أن يمنحه حياة أفضل.

مضت السنوات وتخرج عبدالله من المدرسة، ووقع في غرام حلم أن يكون شرطياً ليحقق العدل. لكنه عندما تقدم للمقابلة، صُفع على وجه أحلامه بالرفض التام، دون أقرانه، ودون ذكر السبب. خرج مكسور الخاطر، وعلى رأسه ألف سؤال تصرخ: “لماذا؟”. رآه حارس المقهى المقابل، وسأله عن حاله، فأخبره بما حدث. تنهد الرجل قليلاً وقال: “سأخبرك بالسبب، لكن عليك أن تعدني ألا تترك اليأس يغرقك”. قال له: “تفضل أخبرني”. قال الرجل: “بسبب مظهرك وشكلك باختصار”. فقد كان أسود البشرة، مجعد الشعر، أفطس الأنف وطويل القامة. حزن عبدالله وعاد إلى بيته، وقد علم أن العسكرية لن تكون من نصيبه، وأن زجاج الأمل قد تحطّم في عينيه.

بحث عن وظيفة مناسبة لكنه لم يجد، ولم يستطع إكمال دراسته بسبب المصاريف العالية، وهو بأمس الحاجة للمال ليعيل والده الذي كبر في السن وبدأ الزمن يسرق أعمدة بيته.

وجد عملاً في إحدى الشركات النفطية كسائق حافلة، وكان الأجر جيداً. عمل هناك لخمسة عشر عاماً، تمكن خلالها من استئجار بيت والزواج من ابنة عمته وأنجب أربعة أبناء. إلى أن جاء اليوم الذي كانت فيه عاصفة اقتلعت جذور أمانه، حين أنهيت خدماته. عاد إلى بيته وألف سؤال يرقص فوق رأسه كاللهيب: من أين له إيجار المنزل وفواتير الكهرباء؟ ومصاريف البيت والأولاد؟ وكيف له أن يعيش؟

الحمد لله، بفضل الله وأهل الخير، وجد عملاً في محل تجاري كبير كمساعد براتب ضعيف، لا يكاد يكفي لما عليه. وها قد بدأت المدارس وعياله لا يقوون على الذهاب، إذ لا يملكون ثمن الفطور، ناهيك عن الغداء أو المستلزمات المدرسية. كان يمشي كل يوم بعد أن باع سيارته التي كانت ذراعاً من أذرعه، ليخفف المصاريف. كان يمشي من بيته إلى مخبز القرية، لمسافة ثلاثة كيلومترات ذهاباً وإياباً، ليأخذ على استحياء بعض الخبز الذي يوضع في سلة المحتاجين، ويعود إلى البيت وبين يديه أقراص دائرية من الأمل. سُمي الدرب الذي يمشيه كل يوم “طريق الخبز”، الذي صار شرياناً ينبض بمعاناة عبدالله.

تكاتف أهل القرية رأفة بحاله، وقدّموا يداً حانية لعياله ليلتحقوا بقطار التعليم. لكن الأيام كانت أثقل من أن يحملها وحده. تعب عبدالله من الحياة وشقائها، ومن المشي كل يوم للعمل، فأخذ يناجي الناس: “أخبروني، لماذا أنا أعيش في هذه الدنيا؟ لماذا تزوجت وظلمت زوجتي وأبنائي لأحضرهم إلى قسوة هذه الدنيا الكئيبة؟” حزن الناس من حاله، إلى أن جاءه إمام الجامع وقال: “اصبر يا عبدالله. إن خير الخلق كان فقيراً مثلك. اصبر، واعلم أن مع العسر يسرين”. هدأت نفس عبدالله وقال: “سامحني يا ربي”.

وفي صدر الجامع، أسدل الستار على مسرح آلامه إلى الأبد. فاضت روحه إلى بارئها. دُفن عبدالله تاركاً معه قصة ألم، أرويها لكم أنا بنفسي، أنا الألم. ومن أراد أن يتذكر عبدالله، فليسلك طريق الخبز الطويل، ليعلم أن الحياة ابتلاء، وأن الدنيا ليست للخلود، وأن الجنة هي دار القرار.

اظهر المزيد

كمال فليج

إعلامي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى