ارتباك المكان وعلاقته بالشخصيات في رواية آدم لـ”رشاد ردّاد”

✍️: وداد أبو شنب
في رواية آدم ثيمات متنوعة تعنى بالإنسان وبقضاياه كما دأبت الرواية الحديثة، نحو القضايا الاجتماعية كالفقر والزواج وظلم المرأة ووجود الطبقات، والتعايش المجتمعي ما بين شرائح مختلفة العقائد والرؤى، نحو الأرمني يعقوب والشركسي هدهد نوح مدير المول الأول وليزا وزوجها وعائلة أبي آدم والعجوز أم إبراهيم…، وقضايا سياسية نحو قضية حرب الخليج وأحداث جامعة اليرموك 1986، واقتصادية نحو انفتاح السوق المتمثل في تغوّل المول الذي بدأ أزرقَ وتطوّر إلى حوتٍ أزرقَ، والرواية بالدرجة الأولى رواية إنسان.
ولما كان المكان عنصراً قارّاً حاضنا لعناصر الرواية (الزمن والشخصيات والأحداث)، ارتأيت أن تكون ثيمة هذه القراءة هي المكانَ من حيث ارتباطُ الإنسان به وتطورُه. فالمكان ثابت كما سبق أن ذكرت، والزمن متغيِّر والشخصيات نامية متطوِّرة والأحداث متحركة متسارعة أو متباطئة. وقد يغدو المكان بطلاً لرواية معينة باعتباره -على حدّ تعبير غاستون باشلار- صانعا للأحداث تارة وحاضنا لها تارة أخرى، فالحي يحتضن الأحداث بتسارع يقترب من الصفر في الوقت الذي كانت الجامعة تصنع تحولات مفصلية في حياة آدم، والأمر نفسه بالنسبة للعقبة ومعان حيث تسارع الأحداث على حساب بقية عناصر الرواية.
وفي رواية آدم نموذجان للشخصية وتطورها حسب اقترانها بالمكان أو انفصالها عنه، الشخصية الأولى هي أبو آدم الذي بقي في مكانه يراوح في مهن متنوعة لكنها لم تقده إلى التطور، فعامل الوطن أبو آدم هو نفسه الذي يقدم خدمات متنوعة للأغنياء من تنظيف بيوتهم وحدائقهم، وهو نفسه الذي يبحث عن عمل آخر في مول نوح، وهو نفسه صاحب المطعم الذي أغلقه لريبته في أحد زائريه، شخصية أبي آدم متصلة تماماً بالمكان المتمثل في الحي أو المخيم اللذَيْن يتنقل بينهما، وهذا الاتصال جعله يراوح محلّه دون تطور، كما رفض الانتقال إلى مكان آخر عندما سنحت له الفرصة عن طريق ابنه آدم. أمّا الشخصية الأخرى فهي شخصية آدم وقد جاء بوضوح ارتباطه بالمكان وبداية تطوّر الوعي عنده على لسان الراوي العليم في بداية الفصل الثاني من الرواية: “آدم بدأ يعيش حياة جديدة، لقد انتقل من جوّ الحي المشكل من كلّ الأصول والمنابت، الصغير والمعقد، ليعيش جوًّا آخرَ، غير المشاكل الزوجية والأطفال الصغار والمصروف وضرب الزوجات، واحتفالات الكنائس والمساجد، لقد دخل الحياة الجامعية، العقول المتفتحة والأفكار والمذاهب والثقافة الواسعة، والانتخابات الطلابية، والأحزاب السياسية. والمشاهدة عن بعد مع صفوف المتفرجين لم تعجبه لسببين: أولهما أنّه الأول في تخصّصه والأمر الثاني التشابه العفوي باسم العائلة مع رئيس الجامعة، فهو آدم بشارات ورئيس الجامعة مطلق بشارات، لكن هذا من شرق النهر وهذا من غربه. وينحاز آدم لأحد الأحزاب الناشطة في الجامعة، تعجبه برامجها وطروحاتها، لكنه لا يؤمن بأيّ حزب سياسي مطلقًا…”(الرواية ص41). من خلال هذه الفقرة يتضح لنا تطور الوعي لدى آدم وتأثيره على شخصيته المتنامية عبر مسار الرواية.
انتقال آدم بالتدريج غير من إنسانيته أيضاً التي وصلت إلى الجحود وإنكار الأصدقاء القدماء، فحالة الثراء المفاجِئ التي أصابته كانت بمثابة الصدمة التي حوّلت مسار الشخصية التي كانت تفخر بكونها: ابن المخيم ومولود فيه، إلى شخصية لا تتذكّر إلا والديها ماديًّا، ولا تصلهما إلا ماديًّا، ومن فرط تنحي الإنسانية عند هذه الشخصية، حاولت أن تجتث أبويها من ذلك المكان الذي تجذّرا فيه، وصنعا فيه لوحاتٍ من الذكرياتِ العبقة.
رغم أنَّ الروائي تجاهل وصف المكان تجاهلاً جزئيًّا، وتجاهل تحديده عن طريق تقنية الوصف، إلا أنه نجح عبر استخدام الرمز في إيصال رؤيته للمتلقي، فآدم اسم رمزي يعني به المواطن العربي الفقير والذي يلتمس وسائل عديدة للوصول إلى حياة كريمة، والرمزية في هذه الرواية على خلاف غالبية الأعمال الإبداعية لم تكن من أجل الاختباء وراء الرموز من أجل إيصال الفكرة، إنما كانت بغرض التعميم، فآدم هو الشاب الطموح بالمطلق، وأبو آدم هو الإنسان الذي يكدُّ من أجل لقمة العيش دون التطلع إلى ما هو أعلى منه، والحي والمخيم هما تلك العشوائيات التي تؤوي الطبقة المتواضعة من المجتمع. ويجدر بنا أن نذكر العلاقة الخفية بين المؤلف والقارئ والتي تتمثّل بالتواطؤ -كما تسميه نظريات التلقي- ذلك التواطؤ الذي جعل القارئ يعيد مسرحة الأحداث في مكان تخييلي لم يصفه المؤلف بدقة ولو يذكر اسمه، لكنّ حيّاً في مخيم في عمّان تجتمع فيه كل المنابت والأديان لا يمكن إلّا أنْ يكون حي الأرمن المتصل بطلوع المصدار.
نعلم أنّ غاستون باشلار قسَّم المكان إلى المكان الأليف والمكان المعادي(أنظرجماليات المكان غاستون باشلار، ص31 وما بعدها)، وأنَّ يوري لوتمان قد تحدث عن أماكنَ مرفوضةٍ وأخرى مرغوبٍ فيها: “هناك أماكن مرفوضة وأماكن مرغوب فيها، فكما أنّ البيئة تلفظ الإنسان أو تحتويه، فإنَّ الإنسان، طبقاً لحاجاته، ينتعش في بعض الأماكن ويذبل في بعضها”(جماليات المكان، يوري لوتمان وآخرون). والمكان المعادي عند باشلار هو الذي تتطوّر فيه الصراعات وتنشأ فيه المشاعر السلبية كالأنانية والكره وغيرها..، في هذه الرواية جعل المؤلف من المكان الأليف ذي الذكريات العبقة والمشاعر الإنسانية الأصيلة مكانًا معاديًا أيضاً، نشأت فيه صراعاتٌ بين ذوات آدم على سبيل المثال، وكان ذلك استثناء -بطبيعة الحال- لأنَّ المكان المعادي اتّضح عند الخروج من أرض الوطن، حيث تفاقمت المشاكل بينه وبين زوجه، وبينه وبين والدتها، إلا أنه استعاد إنسانيته مع قرار العودة إلى أرض الوطن واحتواء عائلته والاهتمام بها. المكان الأليف في الرواية لا يمكن أن تطول فيه العدائية لأنه مؤسَّس على إنسانية من أسسوه ووطدوا تلاحمهم رغم كلّ الاختلاف الموجود بينهم. وتلاحم البيوت وتداخلها ينشئ حميمية بين سكانها، والخروج منه يعرض آدم على سبيل المثال إلى الأزمات كما في الجامعة والكلية، وإلى الضياع كما في معان وأمريكا، و”العلاقة بين الإنسان والمكان تذهب في الاتجاه النفسي مثل ذهابها في الاتجاه الحسي، وتتسِّم تبعا لذلك ببعض التجاذب والتفاعل بين الداخل والخارج”(سطوة المكان وشعرية القص في رواية ذاكرة الجسد، د. االخضر بن السايح، ص20).
ورغم أنَّ الأحداث كانت أقرب إلى الوقائع، إلا أنَّ المكان تخييلي بحت رغم اقترابه من الواقع، فهو محاكاة مجرّدة للواقع تنعكس فيه آراؤنا وثقافتنا ووعينا ولاوعينا، والإنسان على حدّ تعبير سيزا القاسم: “لا يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية، جغرافية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصّل فيها هويته، ومن ثمّ يأخذ البحث عن الكيان والهوية شكل الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى الأنا فيه صورتها”.